فرحات حشاد.. اغتيال الصوت الصارخ في وجه الاستعمار الفرنسي
قراءة في فيلم اغتيال فرحات حشاد (1)
لابد من التسليم بدءا بأن إنجاز فيلم عن اغتيال الزعيم فرحات حشاد مغامرة خطيرة لا يتجشمها غير مغامر يقبل المرهانة ضد الإكراهات والمصاعب وذلك لندرة الوثائق التي تنير سبيل الباحث ولغموض الحادثة ورحيل أهم الرفاق من ناحية ولمكانة الرجل في الذاكرة الجمعيّة من ناحية ثانية ولميل المخيال العربي فطريّا إلى تقديس زعمائه ممّا يجعله ممانعا لكل توثيق لحياتهم يتسم بالموضوعيّة من ناحية ثالثة.. ولا نحسب تقبل فيلم يتجشم هذا العبء من متفرّج ذي دراية بشخصيّة حشاد يغفل عن الانتباه إلى كيفيّة معالجة المخرج فنيّا لموضوعه بقدر انتباهه إلى تفاصيل مقتل الرجل ذلك أن البحث في أنماط التفاعل بين الجماليّ من الفيلم و الإخباريّ (le coté informatique)منه سؤال مركزيّ.
1 . الوثائقي الحواري اختيارا جماليا أثيرا:
لقد اعتمد الفيلم أسلوبا حواريّا استجوابيّا يمثّل السؤال منه مثيرا يحفز المستجوب للإفضاء والشهادة ويستدرجه إلى الموضوع المقصود. فكان الفيلم بأسره شهادة تقلّب صفحات مسيرة فرحات حشاد ذات منزعين: منزع إخباريّ يقدّم المعلومة التاريخيّة فيتولاها المؤرخون أو منزع سرديّ يعرض الحالات من هذه المسيرة والتحولات منها ويتولاها رفاق فرحات حشاد ومعاصروه. ولا نحسب هذا التداول بين المنزعين إلا اختيارا من المخرج يحدّ من برودة المؤرخ الناشئة عن هاجس الرصانة العلميّة والدقّة في التعامل مع الوثيقة ويكبح انخراط الزوجة والرفاق العاطفي وليد توهج الذاكرة واستعار المشاعر، بحثا عن موضوعيّة تلاحق الحقيقة التاريخيّة نحو البحث في أسباب الاغتيال وظروفه ونتائجه، شأن كل وثائقيّ.

2 . من الحوار إلى التحقيق
يمثل منحى التحقيق طبقة مهمة من فيلم “اغتيال فرحات حشاد”. فرغم أن هذا الاختيار يظل ثاويا منطمسا تحت وطأة الحوار الاستجوابي مفتقرا إلى شروط تحققه شأن زيارة فضاءات الأحداث وتقصّي تفاصيل حياة فرحات حشاد الأسرية في صباه أو شبابه أو كهولته أو حياته النقابيّة فإن ضغطه يظل قائما. فالفيلم بشكل ما، يفيد من خاصيّة التحقيق ويعمل على أخذ المتفرج إلى عالم فرحات حشاد صبيّا ينشأ في عائلة صيادي أسماك بجزيرة قرقنة أو شابا يترك مقاعد الدراسة ويلتحق بالعمل في سوسة أو كهلا يخوض غمار العمل النقابي فينجح فيه أيما نجاح ويتغيّر طموحه من الوقوف ضد استغلال العمّال إلى مواجهة المستعمر وتحرير الوطن. على أنّنا نجد هذا التحقيق، نظرا لمركزية عملية الاغتيال منه، يجعل من التحقيق في الفيلم البوليسيّ أصلا اعتباريّا فيوجد المحقق أو المخبر هو ذاك المؤلف الذي يتوارى خلف ما يَطرح في الكواليس من أسئلة وما يثبت في الفيلم من أجوبة ينتزعها من محاوريه انتزاعا ويوجد الضحيّة فيتعرّف المتفرج إليها تدريجيا حتى يشارك المخبر في تحديد المستفيد من موتها حتى يوجه إليه الاتهام، هي فرحات حشاد أما المتهم فيضيق عليه الخناق شيئا فشيئا مع كل لقطة أو مشهد وتحصر فيه الشبهة وتجمع ضده الأدلة ومن يكون غير فرنسا.
لذلك مثّلت النهاية إدانة مباشرة إلى فرنسا باعتبارها مسؤولة بطريقة مباشرة عن مقتل فرحات حشاد وباعتبار منظمة اليد الحمراء ذراع مخابراتها أما مصلحتها فيما أقدمت عليه فتطهير لتونس ممن يمثلون خطرا عليها تمهيدا لمنح البلاد استقلالا منقوصا ولمنح بورقيبة ـ حليفها ـ ساحة سياسية خالية من الخصوم أو المناوئيين.
3. الحوار والتحقيق عونان سرديان:
تحت هاتين الطبقتين ـ الوثائقي حوارا أو تحقيقا ـ تكمن طبقة ثالثة نقدّر أنها الطبقة الأكثر سمكا والمركز الأكثر جذبا في الفيلم هي القصّ. فرغم نزعته التحليليّة وما فيه من تجريد، يكاد يكون سردا لسيرة فرحات حشاد يتشكّل من وضع بداية سمتها الفقر في جزيرة نائية من جزر تونس إلى سياق تحول تكمن ذروته في المجد النقابي يأخذ شخصية فرحات حشاد إلى تونس العاصمة ثم إلى الأمم المتحدة خطيبة في المحافل الدوليّة مدافعة عن استقلال تونس إلى وضع ختام مزدوج يتمثل مخرجه الأول في موت فرحات حشاد أما مخرجه الثاني فمداره على استقلال الوطن.
ولما كان المحاوَر ممانعا يجيب على قدر السؤال ولمّا كان الحوار سائبا منفلتا عن كل نسق ناظم فلا يقدر على تشكيل الأحداث أو الدفع بها كان المونتاج العضويّ وسيلة المخرج الطيعة من خلاله تتضافر الشهادات وتعمل متكاملة باعتبارها أعوانا سردية على تشكيل الحدث الفرعيّ شأن عرض عملية اغتياله فيحدد مصطفى الفيلالي (22 دق 10 ث) تاريخه وتذكر زوجته (22 دق 28 ث) انطلاقه من منزله برادس نحو وسط المدينة بما يمثّل تأطيرا. أما الباحث لطفي زيتون(22 دق 37 ث) فينقلنا إلى الأفعال مستندا إلى الرواية الرسميّة الفرنسية وعنه يأخذ الباحث عميرة علية الصغير(22 دق 58 ث) خيط السرد فيذكر تفاصيل من عملية الاغتيال ويكمل الفرنسي عضو منظمة اليد الحمراء أنطوان ميليرو(23 دق 26 ث) أخرى.

على أن هذه الأحداث الفرعيّة تتعاقب لترصد تحولات في سيرة فرحات حشاد(2) يقطعها بين الحين والآخر عرض لحالات وأوصاف ويتم ذلك كله وفق منطق حسيّ حركي. على هذا النحو بتسرّب السرد يتسرب إلى الفيلم يؤثر في إنشائيته تأثيرا عميقا فيجعل من فرحات حشاد أوّلا بطلا يقارع قوى منظورة وأخرى غير منظورة فترسل إليه الإشارات في شكل تهديد بنهايته المفجعة. ولكنه يتحدى قدره وجراء عناده ينتهي صريعا ولئن كان موته ذاك هزيمة ظاهرة فإنها تخفي انتصارا للحرية على حساب الضرورة يرتقي بفرحات حشاد إلى مصاف الأبطال في التراجيديا الإغريقيّة، ويعرج بالعمق الوثائقي الذي يريد الحقيقة ويتقصى أسرار موت حشاد إلى التخييلي بما يمثّل إرباكا يعتري مقاربة الفيلم الجماليّة. لعل هذا الإرباك يعود في قدر كبير منه إلى صعوبة طرق الموضوع سواء لغياب الشهادات بحكم الفقد فقد أودى أغلب الرفاق أو لغياب الوثائق بحكم الحجب فقد ظلت فرنسا تمنع الإفراج عن أرشيف القضيّة.
4. فرنسا: من اغتيال زعيم إلى اغتيال الحقيقة.
هل توفرت في اغتيال فرحات حشاد أركان الجريمة التامة بحيث يكفل فيها المجرم إفلاته من تبعات إجرامه أم هل استطاع الفيلم إماطة اللثام على لغز مقتل حشاد، ذلك التحدي الذي أعلنا منذ البداية أنه مغامرة خطيرة؟ لا نعتقد أن الإجابة ستكون بنعم في الحالين ولا نحسب أن الكشف البات عن هذا اللغز من الهيّن المتاح. ومن ثمة لم يتجاوز الفيلم التذكير بالمتداول من الوثائق أو الرائج من التخمينات فلا يمكن لمن تعوزه مثل هذه الوثائق أن يطمح إلى المزيد. ولكنّ مسارا واعدا نعتقد أن الحفر فيه كان سيمنح الفيلم طرافته، أهمل ولم يعالج بالقدر الكافي هو ذلك التواطؤ بين الحكومة الفرنسيّة والسلطات التونسية فجر الحكم البورقيبي على إطلاق سراح الجناة من سجن بنزرت.
ومع ذلك لا يغرب عنا ما وسم الفيلم من بعد تحليلي استدلالي ينطلق من الكليات إلى الجزئيات فيبدأ بعرض مصادراته ممثلة في أن موت فرحات حشاد جريمة تقتضي من فرنسا كشف الحقيقة وتحمل تبعاتها الأخلاقية والقانونية ثم يأخذ في عرض التفاصيل والغوص فيها بما هي براهين تؤسس لمسار حجاجي يعمل على إذعان ذهن متفرّجه لدفعه إلى التسليم بهذه المصادرات.
وهذا التمشي الاستدلاليّ يمثل في اعتقادنا إدانة لفرنسا وإن بصوت حييّ خفيض، تلك التي تتباهى بكونها مصدرا للقيم النبيلة والحريات وللعقلانية والتنوير، لما تمارسه من تعتيم على وثائق هذه القضيّة رغم مرور أكثر من خمسين سنة بما يرفع عنها السريّة وفق القانون الفرنسيّ ويجعل من اغتيال فرحات حشاد حلقة من تاريخها الاستعماريّ المشين تنضاف إلى الاغتيالات وأعمال التعذيب الوحشية التي مورست في تونس والجزائر والمغرب وتورط مخابراتها في اختطاف المهدي بن بركة وإصرار قادتها المتواصل على عدم الاعتذار عن استعمار بلادهم للأوطان وإذلالها لشعوبها ونهبها ثرواتها.
(1)فيلم وثائقي من إخراج جمال الدلالي وإنتاج الجزيرة الوثائقيّة 2009
(2) من نشأته فقيرا في جزيرة قرقنة إلى دراسته وعمله في سوسة ثم تدرجه في العمل النقابي من تابع للمنظمة … إلى تأسيسه للاتحاد العام التونسي للشغل وعمله على الجمع بين الهم النقابي والهم السياسي إلى موته في سبيل ذلك غايته تلك.