بيرلينال: في البدء كان الوثائقي..

حضور الفيلم الوثائقي في مهرجان برلين السينمائي في ازدياد متواصل

بقوله، إبان إعلانه عن برنامج الدورة 59 لمهرجان برلين،  “إن الاهتمام بالواقع – وليس العودة إلى الواقعية- قد غلب على الخيال السينمائي في هذه الدورة” لم يقم ديتر كوسليك Dieter Kosslick، مدير المهرجان، إلا “بإعادة ما لقيصر”، فالعودة إلى الواقع والتركيز عليه إنما هي عود أبدي إلى منطلق الفن السابع وبداياته. هي عودة وليست تراجعاً عن مكاسب الفن السابع لأن الفيلم الوثائقي اليوم يستثمر ما توصل إليه هذا الفن من تقنية وتجارب من اجل متابعة أفضل تجعل الفيلم الوثائقي عملا فنيا راقيا. لذلك يعتبر النقاد أن هذه السنة هي سنة الفيلم الوثائقي بامتياز في مهرجان برلين السينمائي. فلئن كان اهتمام الفيلم الوثائقي في بداياته نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين منصباً على التقاط صور من الواقع ومتابعة مشاهد اليومي حيث كان “الممثلون” عمال المناجم تارة ومواكب البرجوازيين تارة أخرى، فإن اهتمام الفيلم الوثائقي اليوم  يتجاوز التقاط الصورة وتوثيقها إلى تحليلها والتعليق عليها. لذلك لا يمكن لنا النظر إلى الافلام الوثائقية المبرمجة في البرليناله إلا من هذين الجانبين: الصورة وإبداعاتها من جهة والمعلومة والتصرف فيها فنياً من جهة ثانية. من هذين الجانبين يتسنى فهم الفيلم الوثائقي في مهرجان برلين السينمائي.
ترجع العودة القوية للأفلام الوثائقية في مهرجان برلين او بالأحرى العودة إلى الاهتمام بالافلام الوثائقية لدى جمهور المهرجان إلى أسباب عديدة نذكر منها الأزمات التي تعصف بالانسانية في القرن الحادي والعشرين كمشاكل المناخ والبطالة والازمات الاقتصادية والمجاعة وغيرها. فالاهتمام بهذه المشاكل لم يعد من باب الترف الفكري لدى الانسان وإنما أضحى هاجساً يومياً. إلى ذلك يبدو أن أفلام الإثارة قد فقدت بهرجها الجذاب بالتقادم وصارت هي نفسها تبحث عن قصص واقعية أشد إثارة وشدّاً للانتباه. ففيلم الافتتاح في مهرجان برلين “العالميthe international ” إنما هو متابعة لأحداث قصة من الواقع تمس الأزمة الاقتصادية العالمية ودور المصارف المشبوه فيها. كما يرجع الاهتمام بالوثائقي من جهة أخرى إلى بلوغ الافلام الدرامية حدا أقصى من التطور والتجارب جعلها تصبح أشبه بألعاب بين ممثلين معروفين يقوم الجمهور فيها بمتابعة ساخرة للممثلين. علاوة على ذلك لا بد من الإشارة إلى أن تطور فن النقد وعدد النقاد قد ساهم كثيراً في بيان قيمة الفيلم الوثائقي وشرح مكانته في جوهر الفن السينمائي. لهذه الأسباب وغيرها أصاب منظمو الدورة الـ59 في برمجة عدد وفير من الأفلام الوثائقية في الدورة الحالية من مهرجان برلين السينمائي.

تتوزع الافلام المبرمجة في الدورة الحالية للبرلينال على أقسام مختلفة واوقات وأروقة متعددة ولها مواضيع متنوعة يمكن الاكتفاء بأربعة أنواع منها في هذا الصدد:

 يتعلق النوع الاول من الافلام بما هو إنساني وعالمي كمشكلة الجوع والفقر. في هذا القسم يمكن ذكر الأفلام: “فود إنكFood inc ” و”على حافة المدنAm Rand der Städte ” و”قاراباGarapa”..

 يتعرض فيلم فود إنك لمشكلتين مترابطتين. المشكلة الأولى هي مشكلة التلاعب الجيني بزراعة الغذاء بالولايات المتحدة.  أما المشكل الثاني فهو مشكل التلاعب بالمعلومات وهذا أهم من المشكل الاول.
 فمن خلال الفيلم يكتشف المشاهد أن مسالة إنتاج الأغذية إنما هي عملية احتكارية بالاساس تقوم فيها الشركات المسيطرة على أسواق الانتاج بالتحكم في المعلومات التي يسمح للانسان ان يعرفها عن غذائه وكيف صنع وما يحتويه من مواد. مثلا عندما لا يراد للانسان أن يعرف أن 80 بالمائة من الذرة في الولايات المتحدة إنما هو إنتاج معالج جينيا وبالتالي فإن كل ما يصنع من الذرة هو بدوره موضوع تلاعب جيني بالأساس، تعمد الشركات الاحتكارية إلى تصفية كل من يتعدى هذا الحاجز الاعلامي بكل الوسائل وبكل التكاليف. بهذا نفهم أن التوثيق في هذا الفيلم لا ينصب بالاساس على الصورة وإنما على توثيق المعلومة.
في نفس الخانة من الأفلام يمكن تصنيف الفيلم “قارابا “Garapa وهو من إنتاج برازيلي للمخرج José Padilha  الذي فاز بالدب الذهبي في الدورة الماضية من مهرجان برلين عن فيلمه “Tropa de Elite.  ويعالج هذا الفيلم Garapa مشكلة الجوع العالمية.

أما الفيلم الثالث في هذا القسم فيعالج مشكلة الهجرة باعتبارها مشكلا إنسانيا عاما وهو بعنوان “على حافة المدن” وهو فيلم يتابع حياة الأتراك-الالمان أي العمال الاتراك الذين غادروا تركيا قبل عقود يحملون صورة طفولية عن وطن يحميهم هموم الغربة. يصف الفيلم عودة هؤلاء بعد سنوات طويلة من التضحية والعمل المضني إلى تركيا واختيارهم لأمكنة إقامة في مدن ساحلية لا تعيدهم إلى الوطن الذي غادروه قبل سنين عديدة وإنما إلى مكان مجهول غريب. يتحول لديهم الحنين إلى تركيا الوطن الأم إلى حنين إلى الثقافة الالمانية التي تبرموا منها طويلا، ويستبدل هؤلاء صور الشرق (تركيا) التي رافقت حياتهم في الغرب على جدران غرف الجلوس بصور تذكرهم بألمانيا والحياة الغربية التي يحنون إليها من جديد.

 
      
اللوحة الإشهارية لفيلم على حافة المدن

في هذا القسم يمكن الحديث كذلك عن الفيلم “مسافر”  Musafir الذي يعرض مشاكل الجوع والبطالة في المجتمعات العصرية.
تتعلق قصة هذا الفيلم بشاب وفتاة من إندونيسيا يعيشان على التقاط القمامة والسعي وراءها من مكان إلى آخر، وعندما يلف الظلام مدينة جاكرتا يلوذان بعتبات المساجد فيقضيا الليل هناك مُلتحفيْن السماء إلى أن يسمعا صوت المآذن في الصباح فيهبا إلى ما كانا عليه في سابق أيامهما. قيمة الفيلم لا تتعلق بمشكلة الجوع بل تتمثل في قدرة المخرج على تحويل الجوع إلى موضوع فني إبداعي. يظهر ذلك من خلال المتابعة الدقيقة لحركات البطلين وسكناتهما التي تُبرز تفانيهما ودقتهما في التعامل مع القمامة لا على أساس انها مما لا يُحتاج إليه وإنما على أنها مصدر للرزق يتجدد على الدوام.  

  

أما القسم الثاني من الافلام المبرمجة في المهرجان فيتعلق بالأفلام السياسية التي تتابع مشاكل سياسية أو لها علاقة بالساسة. في هذه الخانة يمكن تصنيف الفيلم “الأفغان لا يدردشون  Afghanen flirten nicht” وهو فيلم يتابع حياة سيدة ألمانية تعمل مديرة لمنظمات ألمانية للعمل الإنساني بكابول العاصمة الأفغانية. يقص الفيلم صعوبة الحركة داخل حزام أمني يضيق كل يوم. أهمية الفيلم تكمن في أنه يبعث على الجرأة عوض الخوف والحذر فبطلة الفيلم تركت وظيفتها المريحة في ألمانيا مقابل الذهاب في مهمة إنسانية إلى أفغانستان. وليس الامر على هذا النحو فقط فهذه السيدة لا تتراجع في مسعاها من اجل غوث المرضى وعلاجهم حتى خارج منطقة الحماية العسكرية الغربية في أفغانستان.

القسم الثالث من الأفلام الوثائقية يمتزج فيه السياسي باليومي المعيش. في هذا القسم يمكن تصنيف الفيلم “حلم في جنون الفراولة Ein Traum in Erdbeerfolie  ” وهو فيلم وثائقي ألماني للمخرج ماركو فيلمس. هذا الفيلم يعيد صناعة حياة مجموعة من الشباب الالماني من ألمانيا الشرقية في سنوات ما قبل الوحدة الالمانية يحاولون أن يختطوا نهجاً جديداً في حياتهم ويتفاءلون بالحياة رغم مشاكل الواقع.

أما في خانة أفلام التوثيق للمشاهير وهو القسم الذي يعنى بتوثيق حياة المشاهير فيمكن تسجيل الفيلم “أختي ماريا Meine Schwester Maria” وهو فيلم من إنتاج ألماني- نمساوي ومن إخراج مكسمليان شال، يروي المخرج قصة أخته ماريا شال الممثلة العبقرية التي شغلت العالم ونالت أفضل الجوائز عن أدوارها في السينما الاوروبية والعالمية. هذا الفيلم أشبه بالقصة النفسية تتابع حياة ماريا شال بين نخوة التألق وتجارب الحب الفاشل وبين نشوة الكأس وانتشاء الرضا عن النفس. وسرعان ما يعصف بكل هذا جنون الشهرة فلا يبقى غير التفكير في الانتحار على نهج المشاهير.    

هذا بعض ما طفح به مهرجان برلين من الأفلام الوثائقية…


إعلان