الأوركسترا والكنشرتو أو القسمة المثلى

الفنان مارسيل خليفة

مارسيل يزرع اللحن الشرقي في الأوركسترا
 ويحصد كونشيرتو عربي

إن اختيار منظمي ندوة “أمريكا والعالم الإسلامي” اختتام ندوتهم السنوية (انعقدت يوم 14-15-16 فبراير الجاري) بحفل موسيقي لأوركسترا قطر الفلهارمونية، لأمر ذو دلالة عميقة. فبعد ثلاثة أيام من النقاشات الهادئة والرصينة حول القضايا الكبرى المطروحة عالمياً وإسلامياً من قبيل قضايا الطاقة والأزمة المالية وقضايا الحكم والتنمية والديمقراطية وقضايا الحوار الديني.. وفي كل حلقة من هذه الحلقات النقاشية كان موضوع واحد يسيطر على الجميع إنه التقارب والتفاهم بدل الجفاء والاتهام… انتهى المؤتمر بالاتفاق على مفهوم الحوار.
 
انتهى الملتقى على فكرة الحوار ليجد المشاركون أنفسهم أمام لغة أخرى للحوار تختلف عن لغة الأرقام والقوانين والاستراتيجيات التي لا ترحم والإيديولوجيات التي مازالت متحكمة في بعض العقول في الضفتين.. كل ذلك الركام الفكري والنظري تركه أصحابه في قاعات فندق الفورسيزن بالعاصمة القطرية الدوحة، لينتقلوا إلى قاعة فسيحة في أسباير زون (أكاديمية التفوق الرياضي في الدوحة) حيث كانت أوركسترا قطر الفلهارمونية في انتظارهم..

دقت الساعة الثامنة وأخفتت الأنوار.. أما الجمهور فلا تكاد تسمع له همساً.. وقف المايسترو الألماني “أندرياس ويسر” على مصطبته بلباسه الموسيقي الأنيق الذي يعيدنا إلى زهو الموسيقى بألحانها في مراحلها التأسيسية.. ثم أشار بعصاه فانبعث سيل من اللحن غمر الآذان والقلوب كان صوت بيتهوفن(1770 – 1827) حاضراً. ذلك الموسيقار الألماني العظيم   الذي طبع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بموسيقاه التي ظلت شاهداً على إبداعية الفنان.

المايسترو أندرياس ويسر

 عجت قاعة أسباير باندفاعات السيمفونية الخامسة لبتهوفن فكنت ترى الوتر يهتزّ قبل أن تسمعه ثم تلمحه يلين كما يلين الماء بعد المنحدر..
كان العزف قادما من هناك من ضفة أخرى نتحاور معها طورا ونتصارع معها أحيانا ولكن لا ننقطع عن الاستماع إلى موسيقاها ولبس نظارتها لكي لا نرى شمسنا المؤلمة… ثم انتهت المقطوعة ولم ينقطع العزف.. مازال في الدرب متسع للسماع..
هذه المرة جاء الشرق مدوياً كشمس الصباح.. توقف الجميع ووقفوا ليستقبلوا رجلاً كلما شاب شعره ازدادت موسيقاه حسناً.. كان ولا يزال يقول ما يعزف ويعزف ما يقول.. شردته المدن كثيراً من بيروت إلى مدن الثلج والضباب، ولكنه أبداً متأبط عوده يتجاوز به حدود الشرق ليزرعه كجنين في موسيقى العالم الفسيح…
مارسيل خليفة.. نهض من مقعده خجولاً كأول مرة كان.. وديعاً كآخر مرة عزف.. لطيفاً ككل مرة رأيناه.. لم ينطق وترك للجمهور شهوة التصفيق اللذيذ والوقوف الصادق لهامة لم تنحن إلا لتعدل الأوتار..
وقبل أن يعود العازفون إلى جنتهم الموسيقية المؤثثة بالوتر والهواء والحلم، وأمام جحافل الصدق البراق في العيون اقتنصنا من مارسيل كلمة.. وسألته عن موسيقاه.. وهل في حضرته نتحدث غير الموسيقى..؟؟
سألته عن مارسيل “أحن إلى خبز أمي” و”منتصب القامة أمشي” وغيرها مما حفظته الذاكرة وتذكرته كلما سقط للوطن ورق.. وعن مارسيل “جنون” و”جدل” و”الكونشيرتو العربي” وعن تأقلم الموسيقى العربية مع الأوركسترا الغربية.. فكانت إجاباته على قدر ما نتوقع من امتلاء الذات بذاتها وإيمان الحالم بحلمه الذي يراه ولا نراه، بل نسمعه..
السؤال هل أن موسيقاه وثيقة نقيس بها تحولات ذاته ونقرأ فيها دورة الزمن العربي الحديث بآلامه وأحلامه بين تعرجات النوتة؟ أجاب الرجل سريعاً لأن السؤال يستدعي أكثر من وقفة عابرة في محفل بهيج..
سريعا أجاب: “هي موسيقى تعبر عن حياتنا وكل ما فيها من فرح وغضب وحرب وسلام وحب.. ولا أستطيع أن أفسر الموسيقى بالكلمات وحينما أريد تفسيرها أفسرها بالموسيقى..”
كانت إجابة أنيقة ومعبرة وذكية أيضاً.. فالقول بأن الموسيقى وثيقة قد يضعف من وهجها الإبداعي ويلحقها بالمتاحف والأوراق الصفراء المركونة في المكتبات قتلت فيها الحياة حينما هجرها أصحابها. مارسيل لا يمكن أن يرضى للموسيقى أن توضع في ركن وتشرّح كوثيقة صفراء. وفي نفس الوقت يعلم أكثر من غيره أن اللحن يحمل العالم حينما ينطلق إلى الفضاء بلا حدود. يختزن اللحن اللحظة ولكنه يحولها إلى ألم أو حلم أو حب خالد.. تتجاوز التاريخ والجغرافيا. من هذه الزاوية فالموسيقى توثق ما لا يوثق إنه وجدان الشعوب مكوم في صوت أو تحت وتر..
أما سؤالي له عن النقاد الذين اعتبروا أن محاولته زرع الموسيقى العربية في غير بيئتها ستفسد الموسيقى العربية وتفقدها هويتها، فأجاب بوفاء شديد لما يفكر به وما يحلم وما يقول فكانت الإجابة عن السؤال الثاني متجانسة مع السؤال الأول..
أجاب مارسيل بكل بساطة: “الآن ستستمع إلى كونشرتو يعتمد الآلات العربية والمقامات الشرقية.. وسترى كيف أن هذه الآلات ستحاور الأوركسترا من دون نقصان أو ضعف وستؤدي الموسيقى العربية دورها بريادة كاملة..” ثم أدى التحية ومضى إلى مريديه كشيخ في فناء…
هذا هو مارسيل سألناه عن الموسيقى فأجاب بالموسيقى سألناه عن النقد النظري فأجاب بعزف تطبيقي لما يحلم به.
 وبدأ العزف…ظل مرسال في مقعده ينظر إلى حلمه يعزفه شباب ماضون على دربه..وكل على آلته يمسكها بقوة ولين بحسب ما رسمه المعلم مرسيل..
العود في ركنه لم يتزحزح وكذا الناي يطرب شجيا يعضده القانون وتحيط بها الطبلة لتحمي العود من كل بلاء.. كل هذا الحضور الشرقي تحيط به جوقة الأوركسترا جياشة بقوة لحنها أخاذة بهدوء وترها.. لا تهدأ حتى ينطلق الشرق من عنانه حراً طليقاً وعند المنتهى يلتقي باللحن “الغربي” في تلاحم يجسد حرية الإنسان.. وفي ألق يعطي للحوار الحضاري معنى أصيلا بعيداً عن جدول الضرب وقسمة أرزاق الناس..
كانت قسمة عادلة بين لحنين لا يفيء أحدهما على الآخر.. صلح وسلام بين العود والكمان وبين الإنسان والإنسان..
 ووقف الجميع يرقب هذا اللحن التاريخي إلى أين سيفضي هل إلى انفصام أم التئام.. والتأم الجرح الغائر في نفوسنا حينما رقص اللحن الشرقي ودوى وطاول وحاول وجاور وناطح وأصر على أن يكون في الأوركسترا وخارجها.. ومن ناحيتها كانت الأوركسترا مضيافة للحن، خاصة الطبلة (بشار بن مارسيل خليفة على الطبلة).. وحتى القانون الخجول (فارس شارستنان) تقدم إلى مساحة اللحن واشترك مع العود في الرؤيا والنغم (كنان عدناوي على العود) ثم يقف الناي طويل القامة.. يحفه الصمت من ورائه وعلى يمينه وعلى يساره ومن أمامه نور ونغم (مسلم رحال على الناي)..
خرجت من القاعة وأنا أعيد النظر في السؤال الذي بدأت به هذا المقال.. هل أحسن منظمو المنتدى العلمي (أمريكا والعالم الإسلامي) صنعاً بختام الندوة بهذا الحفل كترفيه على المشاركين..؟ فانتهى القول النظري والجدل العلمي بحلم موسيقي للحوار.. أم أن هذا الحفل أحرج أصحاب القرار الذين شارك بعضهم في الندوة.. وسجل نصر الفنان وروح الإنسان على صانع السياسة ولو ليلة واحدة.. ذات شتاء…

 
وقديماً سئل الحكيم اليوناني “متى تطيب الدنيا؟؟ قال حينما يتفلسف حكامها ويحكم فلاسفتها”.. وفي الفن كثير من الفلسفة وفي الفن قليل من السياسة أو هكذا زعموا …عفوا عزفوا…


إعلان