رجل على خيط: أوسكار الوثائقي

الفيلم الذي أعطى للفن معنى مختلفا

إن المتتبع لجوائز الأوسكار في قسمها الوثائقي لهذه السنة، يلفت انتباهه فوز فيلم غريب نسبيا. فهو فيلم لا يطرح في ظاهره القضايا الكبرى للبشر. فقصة الفيلم الفائز “رجل على خيط” Man on Wire الذي أخرجه الأنجليزي James Marsh ليست سوى تتبعا لمسيرة الفنان الفرنسي فيليب بيتي Philippe Petit  وخاصة يوم أن سار على حبل يربط بين برجي التجارة العالمية سنة 1974 . تتبع المخرج تفاصيل التحضيرات وأسرار الهروب من أمن نيويورك لتنفيذ هذه المهمة الخطيرة والممنوعة قانونا..

المخرج الأنجليزي جيمس مارش الفائز بأوسكار الوثائقي 2009

والفيلم معتمد أساسا على كتاب بوتي “ملامسة الغيوم” To Reach the Clouds وهو الكتاب الذي تحدث فيه عن مفهومه للفن الذي يقوم به وهو فن السير على الحبال من ارتفاعات شاهقة.
البطل ليس ثائرا أو رجل سياسة مثير للجدل أو زعيم عصابة .. البطل لا يطرح قضية تشغل الناس كثيرا كما عودتنا الأفلام الوثائقية. البطل فنان يرفض أن يطلق عليه بهلواني .. وإنما يصر على أن ينتمي إلى عالم الفن مقتربا من الرقص في أدنى حالات التشابه وسابحا في الشعر والأسطورة في أقصى درجات المشابهة بين ما يصنع وما يتصور أنه فن.
بدأ فيليب بوتي المولود في 13 أغسطس 1949حياته هاويا للألعاب الخطرة في شوارع باريس وساحاتها وبدا يستأثر بجمهور الشوارع قبل أن يتم استحداث ما يسمى في الغرب بمهرجانات فنون الشارع. وهي المهرجانات التي تعرف بالفنون الهامشية التي تنتشر في شوارع المدن لطلب الرزق كالسير على عجلة واحدة أو القفز من أماكن عالية … ثم انطلق نحو اختصاص صعب إنه المشي على الحبال بين البنايات العالية. فسار سنة 1971 بين البرجين الشهيرين لكنيسة نوتردام باريس. ثم سنة 1973 سار بين البرجين الذين يشدان جسر هاربور في سيدني في أستراليا ثم جاء عمله الإبداعي الذي استأثر الفيلم الوثائقي جل مدته للحديث عنه ألا وهو السير بين برجي التجارة العالمية في نيويورك سنة 1974. 

فيليب بوتي يستعد للسير على حبل بين الربجين العالمية سنة 1974 

ككل فنان بدأ هامشيا واستطاع أن يلفت الأنظار إليه ولكنه كان دائما يصر على أنه فنان وهذا الإصرار جعله يذهب بعيدا في عالمه الذي لا يعرفه إلا هو. لقد أدرك أن ما يجمعه مع بقية الفنانين هو مفهوم المشهد المختلف فكما أن رجل المسرح يصنع مشهده الذي لا هو في الواقع ولا هو خارجه وكذا السينمائي وكذلك الشاعر والراقص.. هو أيضا يصنع مشهدا مختلفا ليس من حياتنا الواقعية ولكنه مشهد حقيقي.
 لقد اقتحم بوتي مجتمع المشهد من زاوية ما يمكن تسميته “الغرائبية الممكنة” فتماس مع الأدب العجائبي. وتقول عنه نيكول فيلارد أن فنه يشبه الفن التكعيبي الذي يبحث عن زوايا مختلفة للنظر إلى الحقيقة الواحدة. وقد حاول المخرج في فيلمه أن يسلط الضوء على البعد الفلسفي لتصورات بوتي.
يجيب عن سؤال : ما معنى أن نمشي في السماء؟ وما يحمل هذا المعنى من معاني الحرية والانعتاق من قوانين الفيزياء والحياة اليومية والاجتماعية .. علاوة على النظر إلى الشارع والمدينة والحياة من عل. لا شك أنها لحظة وجودية تلتقي مع لحظة الفنان وهو يرسم أو يعزف شيئا فوق الناس وفوق الحياة اليومية الخانقة. لقد وصل إلى ما يسميه بوتي في الفيلم إلى “عالم الخرافة”. وهو عالم يحن إليه الإنسان لأنه يذكره بطفولته البشرية حينما كان البشر يصنع كائنات غريبة عنه ليخاف منها ويعبدها أحيانا. وحينما كان البشر يبحث عن المشهد الغريب في خياله ليعطي معنى لمخاوفه من الحياة ويجدد إيقاعها.
كما ناقش الفيلم البعد النفسي لهذا النوع من “الفن”. والسؤال النفسي المطروح هو هل أن البوتي حينما يقدم على خطوته الأولى على الحبل على ارتفاع شاهق، هل كان واعيا بما يفعل أم أن تلك لحظة لاواعية لأنها لا تستجيب للمنطق البشري المحفوف بمفهوم الخوف  والموت وإمكانية الخطأ؟.. وقد أكدت إحدى الشخصيات المهمة في الفيلم وهي آني أليكسيس (صديقة بوتي وزميلته في هذا الاختصاص وصاحبة تجربة في الميدان)، أكدت أن تلك اللحظة هي فعلا لحظة يتحرك فيها اللاوعي الفردي لأن السائر على الحبل لو استحضر وعيه وعقله الذي يعيش به حياته الواقعية لفشل في مهمته.
 وهنا أيضا يقترب المخرج بأسئلته النفسية إلى أسئلة الفن ذاتها فهناك رؤى تعتبر أن الفنان حينما يقدم على عمله الإبداعي إنما يتحلل من قيوده النفسية والذهنية ليسبح في الخيال ويعبر بحرية عما يرى. لعل ارتباط مقولة الفن بالجنون من المقولات الكلاسيكية في النقد الفني للفن.
 فبوتي من هذه الناحية مجنون يكسر حواجز العقل والمنطق ويسير في السماء. ومن اللافت أنه يصر في هذا الفيلم على دحض هذه الفكرة ويقول إنه أثناء سيره في الفضاء يسمع ويرى ويتفاعل فيرى الطيور تطير أمامه ويسمع صراخ المشجعين من تحته ويرى جموع الناس التي تأتي لتتأكد هل أن ما يرونه جنون أم قمة العقل. 
اللافت في هذا الفيلم أنه لم يتعرض مطلقا لحادثة 11 سبتمبر 2001 فرغم المساحة الزمنية التي احتلها مشهد البرجين في الفيلم إلا أنها كلها كانت مادة أرشيفية سبقت ما حدث. ولعل في هذا دلالة مهمة تقرب العمل مرة أخرى من الفن وتبعده عن السياسة والبؤس البشري الذي يعبر عنه حدث 11 سبتمبر. وقد علق الناقد السينمائي بيتر كادل عن ذلك قائلا : “لم يستعمل أي لقطة من ذلك اليوم الرهيب وركز على ما يسميه بوتي مجال الخرافة.. فأصبحت قصته بالتالي ميثولوجيا شعرية”.
السير على برجين عالميين هو آخر ما وصل إليه بوتي من إبداع وسقوط البرجين بعد ذلك بـ 27 سنة هو أقصى ما وصلت إليه الإنسانية من بؤس لقد خير المخرج أن يطير في السماء على أن يسقط مع من سقط في ذلك اليوم. خير جنون الفن على تعاسة الإنسان. خير الإبداع على الخراب والدمار.
من هنا قدم هذا الفيلم أسئلة الفن الحقيقة من خلال فن غير حقيقي بالمعنى التقني لكلمة فن (السير على الحبال). وطرح حضرت فيه الأسئلة بالغياب فغياب 11 سبتمبر من الفيلم هو حضور للحدث بالقوة وهو تجاوز لمأساة البشر بنموذج عن رجل قالت عنه رفيقته آني أليكس “بالنسبة إليه كان كل يوم جديد يمثل لحظة إبداع جديدة”..

وحتى حينما تسلم بوتي الجائزة تسلمها بطريقته الخاصة التي لا تخلو من تميز وإبداع….
 


إعلان