«الحكيم» على شاشة الجزيرة.. قراءة نقدية
مع رفض الحكيم/ د. جورج حبش، وعلى مدى السنوات الأخيرة من حياته، إجراء أي مقابلة تلفزيونية مصورة، وامتناعه حتى عن الإدلاء بشهادته على العصر، على الرغم من الإلحاحات المتوالية، والعروض المتواصلة، والطلبات المتكررة، التي بلغت حدّ الرجاء.. كان من الواضح أن د. جورج حبش، إنما يريد لنفسه الصمت (هكذا) في زمن الكآبة العربية والفلسطينية، على السواء، وفي زمن الانهيارات والتداعيات الكبرى، التي ألمَّت بكل ما حلم به من مشاريع كبرى لهذه الأمة، وأطاحت بكل ما توسَّل تحقيقه عبر الكفاح.
وسواء أكان رفضه الجلوس أمام الكاميرا، وامتناعه عن الحديث إليها، لأسباب سياسية، أو صحية، أو حتى نفسية.. فقد كان من الواضح أن الحكيم سيرحل عن هذه الدنيا، ويأخذ الكثير من أسراره وحكاياته، التي فاضت على ما يزيد عن نصف قرن من النضال على المستويات السياسية، والعسكرية، والفكرية، والثقافية..
رحل الحكيم، إذاً، دون مفاجأة، ودون أن يترك لقاءً حياً بالصوت والصورة، ودون أن يترك لمريديه، أو محازبيه، أو معجبيه، بل حتى معارضيه، فرصة مشاهدته، وسماع رأيه، والاقتراب منه.. دون أن يبوح، أو يعترف، أو يشهد على زمنه، وعلى هذا الزمن.. وبقي كما ذكرى تلوح من أفق بعيد، كأنما تطل من زمن سحيق، ينتمي إلى أيام الثورة والنضال، وزمن الكفاح المسلح والعمل العسكري، والطموحات والشعارات والأحلام الكبرى..
بقي لنا تراثه الكبير من مواقف وخطابات في مناسبة سابقة، توغل في سنوات مضت تعود إلى أيام قيادته للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حينما كان يلقي الخطابات الحماسية، في مناسبات وطنية فلسطينية، تترقب إطلالته، وتترصد مواقفه، القائمة على تحليل عميق للمرحلة السياسية، كلٌّ في وقتها، تشكل أنموذجاً لليسار الفلسطيني الراديكالي، الذي كان.
أعرفُ، وقد كنتُ شخصياً جزءاً من محاولات متعددة، ومشاركاً في محاولات أخرى، تهفو للاقتراب بالكاميرا من الأسرار الكبيرة التي انغلق الحكيم عليها، طيلة سنوات أمضاها في مكتبه في دمشق، قبل أن ينتقل إلى عمان، أولاً، وقبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى، في النهاية، مقدار ما جرى من محاولات.. بل يمكنني القول إن قناة الجزيرة، كانت دائماً هي المحرك لهذه المحاولات جميعها.
ومؤخراً، (مساء يوم الجمعة 13/2/2009)، عرضت قناة الجزيرة الفيلم الوثائقي «الحكيم»، بإخراج الشاب الأردني أحمد عدنان الرمحي. وأن تمنح قناة الجزيرة الفرصة لمخرج شاب، للقيام بهذا العمل الكبير، فهو أمر ذو دلالات هامة، أقلها إتاحة فرصة التواصل الجيلي المتمثلة بأن يقوم الأحفاد بإعادة سرد حكاية الأجداد، وأعلاها أن نرى كيف يمكن لشاب أن يبني نصاً بصرياً تتمازج فيه السيرة الذاتية، مع السيرة الكفاحية، مع تاريخ أمة، لرجل رهن حياته في سبيل أمته، فما اكتفى بأن يكون طبيباً ناجحاً، ولا قبل بأن يبقى لاجئاً مشرداً، بل جعل من نجاحه الفردي، ومأساة شعبه، زاده في نحت مسيرة رجل استثنائي، بكل ما في هذه الكلمة من معنى..
اليوم يعتقد الكثيرون أن زمن المقاومة انتهى، وأن سيرة المناضلين انطوت.. فماذا عندما نمنح لمخرج شاب، فرصة أن ينجز فيلماً وثائقياً، عن واحد من أبرز المنتمين إلى زمن المقاومة، وأصحاب السيرة النضالية؟!..
لا شك أن فيلم «الحكيم»، بالصورة التي رأيناها، يثير الكثير من الأسئلة، وفي مقدمتها أن الفيلم يحاول جاهداً الالتفاف على المشكلة الأساس، التي قدمنا لها في حديثنا هذا، والتي واجهها من حاول إليها سبيلاً، وهي إشكالية رفض الحكيم/ د. جورج حبش التعامل مع الكاميرا، بالجلوس أمامها، أو الحديث إليها، فجاء هذا العمل فيلماً عن الحكيم، حاضراً بغيابه.. بل إن الملاحظة الأساسية تشير إلى أن الفيلم ذهب فوراً إلى تناول تاريخ المنطقة السياسي، ومجرياته، منظوراً إليها من زاوية الحديث عن دور الحكيم، ومواقفه.. إلى درجة أن الفيلم بدا ذريعة لإعادة سرد تاريخ المنطقة، ومحطات من القضية الفلسطينية، أكثر من الانهماك في رصد سيرة الحكيم/ د. جورج حبش، نفسه..
بغيابه، حاول الفيلم أن يقدم الحكيم من خلال العديد من اللقاءات والتصريحات.. وهي بمجموعها أتت مع شخصيات عاصرت الحكيم في فترات متتالية من مسيرته النضالية، فمنها من افترق عنه في أزمان مبكرة (فضل شرورو، طلال ناجي، نايف حواتمة)، ومنها من افترق عنه في أزمان لاحقة (بسام أبو شريف)، ومنها من بقي على تواصل قلق (صلاح صلاح، نايف حواتمة)، ومنها من تعامل معه في مراحل متأخرة من حياته (ماهر الطاهر).. ولكن اللقاءات بمجموعها ألقت الضوء على مفاصل أساسية من تجربة الثورة الفلسطينية، أكثر مما ألقت الضوء على مفاصل أساسية من تجربة الحكيم ذاته..
بقي غائباً عن الفيلم السيرة الذاتية للرجل.. صوته وصورته.. بوحه واعترافاته.. أحلامه وآماله وآلامه وطموحاته.. لم يتم التطرق إلى جورج حبش الإنسان.. غابت أسرته.. زوجته وابنتاه.. غابت يومياته.. غاب مرافقوه الأقربون، ومديرو مكتبه اللصيقون به.. وقبل هذا غابت تجربة «حركة القوميين العرب» ذاتها، وأبرز روادها العرب!.. ولم تتم مناقشة تحولاته الكبرى، من عمق القومية إلى ضفاف الماركسية.. ولم تتم مناقشة قيادة جورج حبش للعديد من الأحزاب والحركات والثورات والتمردات، في هذا البلد العربي، وذاك.. ولا انفراط العقد، وتناثر من كانوا يوماً تحت قيادته، وتحولهم ذات اليمين، وذات اليسار.. بل غاب مشروعه الأخير «مركز الغد للدراسات»، الذي أمضى فيه آخر أوقاته..
اكتفى الفيلم باللقاء مع عدد من القيادات الفلسطينية.. وهم قالوا الكثير مما نعرفه، ولم ينبشوا شيئاً مما لا نعرفه.. وما زادوا شيئاً لمستزيد..
ومع هذا يبقى، وثائقي «الحكيم»، جديراً بالمشاهدة، باعتباره محاولة أولى، جادة، ورصينة، وخطوة أولى على طريق، يحتاج المزيد من الخطوات.. فثمة الكثير مما ينبغي أن يقال.