أولاد لينين : الالتباس بين الشخص والموضوع
عرض أخيرا بقاعة سينما أفريكار، وهي احدى القاعات التجارية التي تفضل عرض مختلف أنماط الأفلام الوثائقية، عُرض شريط مازال يشد انتباه المهتمين و الناشطين بالحقل السياسي أكثر ربما من المشتغلين أو المهتمين بالحقل السينمائي.. شريط “أولاد لينين” الذي عرض لأول مرة في ربيع سنة 2008 ، ما زال يمنح النقاد والمحللين والسياسيين على حد السواء مادة خصبة للجدل والاختلاف في ساحة قلما جربت مساءلة التاريخ.
بين خطي الذاتي و الموضوعي، و بين دائرتي العائلة و الوطن حاولت ” نادية الفاني” المخرجة الشابة سبر أغوار التاريخ السياسي الحديث للبلاد التونسية، ليكتشف المشاهد إنها إنما تسبر أغوار تاريخ ملحمي أسري، هو سيرة والدها “البشير الفاني” أحد أبرز من طبعوا مسيرة الحركة اليسارية في تونس، و أحد أبرز قياديي الحزب الشيوعي التونسي قبل وبعد حظره من الرئيس السابق التونسي “الحبيب بورقيبة” في مطلع الستينات من القرن الماضي.
![]() |
المخرجة نادية الفاني
واعتمدت نادية الفاني في شريطها على أسلوب التداعي في استدعاء أفكار وأقوال ومواقف هي مما تبقى من ذكريات والدها ومنها كانت تنطلق كل مرة لاستكمال ما قيل أو مناقشته أو مساءلته بالرجوع لرفاق والدها أو لشخصيات سياسية كانت إما مطلعة أو شاهدة على أحداث مركزية في تاريخ هذا الحزب، أو في ما شهدته البلاد التونسية من أحداث سياسية و هزات و تطورات ..
وينطلق الشريط الوثائقي في مزاوجة بين الصور والأصوات من البعيد والعميق، من صدى طفولة البشير الفاني في مدينة سوسة الساحلية قبل استقلال تونس ( 20 مارس 1956 ) من خلال علاقته بأصدقاء سيكون لهم دور كبير في ترسيخ إيديولوجيا سادت كثيرا في تلك الفترة لدى معظم حركات الرفض و المقاومة التي طورتها الشعوب المستعمَرة والمقهورة وهي ” الماركسية اللينينية “، و يتيح الأسلوب السينمائي بشكل متدرج تفسير الصدى الذي وجدته هذه الإيديولوجية مرة من خلال وعودها، و مرة عبر كاريزمية من روجوا لها أو قدموها لمحيطهم الاجتماعي.
ثم تأتي شهادات قدماء ” الرفاق” حول شخصية البشير الفاني ، لتكون فرصة للحديث عن ظروف تطور الحركة اليسارية و توجهاتها، الالتباس بين الشخص و الموضوع، والارتباط بين سيرة الفاني و بين الحزب اعتبره بعض النقاد نقيصة ومطعنا في الطرح و هناك من اعتبر أن المسألة لا تتعلق ببناء اختياري من المخرجة، بل بعجز منها عن التوصل إلى إيجاد تلك المسافة الموضوعية بين “البشير الفاني” الأب والمناضل، ففقدت بذلك فرصة كتابة وثائقية لفترة تاريخية مهمة مغيبة التناولات التاريخية الرسمية، وكأن الصلة الأبوية كانت أقوى من أن تجرد نادية الفاني من القدرة على تقديم شخصية قيادي حزبي فقط .
سيرة البطل هنا، هي التي تخترق مسار التاريخ طيلة الخمسينات وصولا إلى السبعينات، و هي التي تمكن من إعادة اكتشاف علاقة البورقيبية بالخطابات السياسية الأخرى التي حاولت رسم بدائل سياسية و اقتصادية طيلة هذه العقود الثلاثة التي ترافقت مع أحداث سياسية و هزات اقتصادية واجتماعية متفاوتة..
وتتالى الشهادات، شهادات من سماهم الشريط “أولاد لينين” من” سيرج توبيانا” الناقد السينمائي ومدير المكتبة السينمائية الفرنسية والذي تربطه علاقة بالبشير الفاني وهو أصيل مدينة سوسة التونسية أيضا، و هو ابن لأبوين شيوعيين ثانيا، وفي نفس السياق، تتنزل شهادات ” جيلبار نقاش ” أحد الوجوه اليسارية المعروفة في تونس و صوفية بسيس الباحثة في التاريخ الاجتماعي وجوليات بسيس ونائلة جراد وليلى عدة ومنذر الحاج علي…و هنا أيضا يلوم النقاد المخرجة على نرجسية لا يمكن إخفاؤها في انتقاء شهادات متماهية مع سيرة والدها وممجدة لها.
مع ذلك، تُغالب المخرجة الشابة نادية الفاني لدى إدراج الشهادات و ترتيبها، لكي تبدد من ذهن مشاهدها بأنها بصدد تقديم درس أو نص في التاريخ السياسي مفاده التلازم التام بين الشخص و الفكرة، أو بين البشير الفاني و الحزب الشيوعي التونسي، و رغم ذلك فقد كان الجدل الكبير الذي أثير إثر هذا الشريط على لسان “المجتمع ” اليساري أو الوجوه “اليسارية الأرثودكسية” هو ما اعتبروه “شخصنة” للموضوع و تقديم سيرة هذا القيادي، لمن لم يجايله، و لمن لا يدرك منزلته في الحركة السياسية قبل الاستقلال وبعده، مثلما يتحدث البعض بمرارة عن تجاهل شخصيات فكرية معروفة في هذا التيار مثل البشير النافع و سارج عدة.
مع ذلك يبقى هنالك إجماع على أن شريط ” أولاد لينين” استطاع أن يكون بناء وثائقيا صلبا، و يرى الكثيرون أن الانتقادات و المطاعن لا يمكن أن تخفي أن هذا الشريط قدم إضافتين على الأقل، الأولى في رصيد الأعمال الوثائقية التاريخية الجادة التي مضت إلى مسالك غير مطروقة وأحداث غير مكرسة، و الثانية ذات صبغة سوسيوثقافية بإثارة نقاش هام و ضروري لدى الأجيال الجديدة بشأن الدور و وظيفة النخب السياسية التي رسمت أجزاء غير منظورة من المشهد السياسي والفكري في تونس والعالم العربي..