يا فن من يشتريك…؟!

كان من المفترض أن يبدو المشهد غير ذلك، فقد أتمت السينما المصرية مائة عام في نوفمبر 1996، لأن هذا التاريخ يتواكب مع عرض أول فيلم مصور ومنتج بأيد مصرية في عام 1896، وكان الفيلم عن افتتاح الخديوي عباس حلمي الثاني للمعهد الديني بضاحية المرسى أبو العباس بالإسكندرية، وكان من الطبيعي أن تشهد مصر منذ هذا الوقت احتفالات تشمل (عروضاً سينمائية، وترميماً لتراث السينما المصرية من أفلام، وإصدار الكثير من الكتب والنشرات حول تاريخ السينما في مصر)، ولكن يبدو أن وزارة الثقافة المصرية ترى عكس ذلك، فلا يتجاوز عدد الكتب المؤلفة التي تفكر في “السينما” أو “أدبيات السينما” في مصر أكثر من 12 كتاباً طوال ما يقرب من نصف قرن حتى نهاية الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي، منها تسعة كتب لم تصدر لأي منها طبعة ثانية وبالطبع نفدت طبعاتها الأولى.
وبالبحث في ردهات معرض الإسكندرية الدولي للكتاب في محاولة يائسة عن إصدارات جديدة من الكتب السينمائية، تحاورنا مع بعض المسئولين عن دور النشر المشاركة بالمعرض للبحث عن الأسباب الحقيقية وراء قلة الكتب المتخصصة في هذا المجال، ومدى إقبال القراء على هذه النوعية من الكتب إن وجدت.

يقول عصام شريف ـ مسئول التسويق بصندوق التنمية الثقافية وممثل المجلس الأعلى للثقافة: “إن المجلس يركز في إصداراته على مجالات الأنشطة المتعلقة (بالأدب، والتاريخ، والاجتماع، والسياسة، والفلسفة، والقصة، والرواية..) بالإضافة إلى الفنون التشكيلية إلى جانب بعض الإصدارات في أنشطة المسرح والتليفزيون والسينما، وبهذا نحرص على التنوع في الإصدارات المتاحة للجمهور، ولكن غالبية القراء لا يهتمون بهذه النوعية الأخيرة من الكتب، ومن الملاحظ على مدار انعقاد دورات معرض الكتاب وتحديدا منذ حوالي سبع سنوات ميول القارئ المصري وإقباله على نوعية الكتب المتخصصة في التاريخ والفنون التشكيلية، ولهذا أرى أن القصور في إصدار الكتب الفنية السبب الرئيسي فيه هو القارئ وليس دور النشر، إضافة إلى التوجه الذي ينتهجه أساتذة الجامعة والمتمثل في ضرورة شراء الطالب لكتب التاريخ وكتب الفنون التشكيلية دون غيرها، وهو ما دفعنا في صندوق التنمية الثقافية إلى التركيز وإصدار ما هو متميز في مجال الفنون التشكيلية من أمثال (محمود سعيد، منير كنعان، وخصائص الفن الحديث..)، ومع هذا نهتم كل عام بإصدار دليل السينما المصرية.

ويقول هيثم محمود ـ مسئول القسم الخاص بإصدارات مكتبة الإسكندرية: هناك سلسلة من الكتب يصدرها مركز الفنون التابع لمكتبة الإسكندرية، والتي يقدر عددها الآن بنحو عشرين كتابا، ولكن في معرض الكتاب لم يتم عرض سوى ثلاثة كتب عن السينما وهي (الشخصية السكندرية في السينما المصرية ـ وميلاد الفن السابع في الإسكندرية “باللغة الإنجليزية” ـ ومئوية السينما المصرية” وهو الكتاب الوحيد الذي بيعت النسخ المتبقية منه “حوالي   10 نسخ” طوال فترة المعرض)، وغالبية من أقدم على شراء هذه النسخ من المتخصصين في هذا المجال، أما القارئ العادي فهو يهتم أكثر بقراءة كتب التاريخ.
ويؤكد حامد حسن ـ المسئول عن القسم الخاص بإصدارات المركز القومي للترجمةـ أن قلة عدد الكتب المترجمة والمتخصصة في المجال السينمائي تعود إلى عدم تفرغ المترجمين ويقول: “ترجمة مثل هذه النوعيات من الكتب يجب أن تتم بأيدي المتخصصين في المجال السينمائي، وليس منهم من يسعى للتفرغ لهذه المهمة، ولهذا السبب لم نأت إلى معرض الكتاب سوى بكتابين فقط عن السينما وهما “أفلام ومناهج” تأليف بيل نيكولز” ـ وصور ما بعد الكولونيالية “تأليف روى أرامز” وهو عبارة عن دراسات في أفلام شمال أفريقيا)، ولم يتم بيع نسخة واحدة من أي منهما.
ويكمل حامد استنكاره للواقع ويتساءل: “من الذي يمكن أن يقدم على قراءة كتاب عن مراحل تطور السينما في أفريقيا أو حتى في العالم؟!، كل ما يهتم به الشباب الآن أن يشاهد فيلماً جيداً فقط، دون الدخول في مقارنات ودراسات معقدة لن تفيده في مجال العمل، وبالطبع بعيدة كل البعد عن مشاكل الحياة الشخصية. ولم يكن هناك مفر من طرق أبواب المتخصصين للوقوف على حقيقة ضعف التواجد الثقافي في المجال السينمائي.

 ويقول شريف الشوباشي ـ باحث وكاتب ورئيس مهرجان القاهرة السينمائي سابقاـ: “للأسف الشديد أصبح عدد القراء في مصر محدوداً جداً، ويساعد على ذلك قلة عدد الكتب التي تصدر في العام الواحد إذا قارناها بعدد الكتب التي تصدر مثلا في فرنسا والتي تصل إلى عشرين ألف كتاب في العام الواحد، في حين تصدر مصر ما يقرب من عشرين كتابا في العام، وهو شيء مخجل بحق (على حد قوله).
ويضيف الشوباشي قائلا: قد يعود هذا الفقر الثقافي إلى عدة أسباب أهمها أن الجمهور ينظر إلى السينما على أنها مجال ترفيهي، وطرح بعض المواد السينمائية في كتب تباع بالأسواق يجعلها تأخذ شكل المواد الدراسية أو العلمية التي لا يقبل عليها سوى الدارسين لهذا المجال أو المتخصصين، وبالنظر إلى ما تنشره الصحف باعتبارها من أهم الأدوات التثقيفية للقراء نجد أن الصفحات الفنية تقتصر على الشكل الخبري وليس التحليلي، وهو ما يزيد من عدم إقبال القراء على قراءة السينمائيات لافتقادهم الوعي الكافي لهذا الفن الرائع.

ويؤكد الدكتور محمد كامل القليوبي ـ مخرج وكاتب سينمائي ـ أن السينما هي الذاكرة السمعية والبصرية للشعوب، ويقول: “نسف التراث السينمائي يعتبر هدما للذاكرة الإنسانية، وأي إهدار فيها يعد كارثة قومية، ومن أهم العوامل التي تؤدي لمثل هذه الكارثة نقص الحرفية وضعف النقد العلمي، وقلة عدد الكتب المترجمة.. وكل هذا وغيره من أسباب تعمل على التخلف، فنكتفي بمعارفنا القديمة ونتمسك بالثوابت التي تغيرت في كل أنحاء العالم.”

ويفجر القليوبي مفاجأة بقوله: “خلال الاجتماع الدوري للجنة البرامج الثقافية بالتليفزيون المصري والتي أعمل عضوا بها فوجئنا بقرار ينص على أنه في إطار خطوة تطوير البرامج بالتليفزيون، قررت وزارة الإعلام إلغاء جميع البرامج الثقافية، والتي من ضمنها برنامج (نادي السينما) الذي استمر تقديمه على مدار 32 عاماً بمثابة بؤرة ضوء تشع ما يعرف بالثقافة السينمائية”.

ويحذر الدكتور ناجى فوزي ـ ناقد فني وباحث ـ من تردي حالة الثقافة السينمائية ويقول: “قد نستيقظ يوماً لنجد أن الثقافة السينمائية قد انقرضت، وكل الدلائل تشير إلى ذلك فالمؤسسات الثقافية منها ما هو في حالة تراجع مستمر مثل (جمعية نقاد وكتاب السينما ـ والمركز الكاثوليكي المصري ـ وجمعية الفيلم التي تقلص دورها تماما)، ومنها ما تم إغلاقه بالفعل مثل (نادي السينما) الذي وصل عدد أعضائه إلى ثلاثة آلاف عضو كانوا يتسابقون في إصدار نشرة أسبوعية، لتصبح مجلداً سنوياً، يصدر عنه العديد من الكتب، وتحولت الثقافة السينمائية في شكلها الحالي إلى مهرجانات أذكر منها (مهرجان القاهرة السينمائي ـ مهرجان الإسكندرية السينمائي ـ مهرجان الأوسكار المصري ـ مهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية).
ويؤكد الدكتور ناجى قائلا: “يتجاهل الكثيرون حقيقة أن الثقافة السينمائية جزء أساسي منها الكتاب السينمائي وهو إما أن يكون مؤلفاً أو مترجماً، والكتب المترجمة في مجال السينمائيات لا تتعدى أصابع اليد أما المؤلفة فهي إما أن تكون عبارة عن تجميع لمقالات كاتب لديه اسم رنان يستغل شهرته في بيع أكبر عدد من النسخ، وإما موضوعات لا تقدم الجديد ولا يكون بها ثراء.”
 
لا يسعنا في نهاية هذا التحقيق إلا أن نذكر أن هناك بلادا كثيرة في العالم تنتظر مثل هذه المناسبات لتعبر عن الاعتزاز بتاريخها والشخصيات التي صنعت هذا التاريخ، وهو الأمر الذي يلزم جميع الجهات المهتمة بالتكاتف من شركات إنتاجية ومؤسسات الثقافة والإعلام والسياحة، ولمن لا يذكر ففي السابق كانت السينما المصرية تمثل المصدر الثاني للدخل بعد القطن المصري.

ومع هذا فإنه حتى كتابة هذه السطور.. القضية لم تحسم بعد، فإن لم يكن مرور مائة سنة على ميلاد السينما المصرية دافعا لجمع ما تبقى من صور ووثائق وإصدار الكتب والألبومات، فمتى يتم إنقاذ هذا الفن، وتوفير خزائنه لعشاق السينما والباحثين.


إعلان