تقارب فني أكثر جرأة وإبداع..
السينما التسجيلية والسينما الروائية
فادية الغزالى حرب
حينما يتجسد الواقع فنا تحتله أضواء الكاميرات وتختصره شاشة العرض بين أضلاعها المحددة وتلفه موسيقى التعابير المتعددة تنتزع صمتك وتلقى به إلى دنيا المعانى والكلمات ،تلتقط الأسرار وتسرق مفاتيح القلب لتفتح ممرات وتشق بحيرات من البوح لا قبل لك بها ، تشعر أنك أنت البطل صاحب الحدث وضحيته ، مبدع الأفكار ومحطمها ، شجن الفن يسيطر على الأجواء رغم إنشغال الجميع بالتحضير لبدأ فعاليات مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية ورئيسه الكاتب والمخرج عباس أرناؤوط الذى أمتد الحديث معه ليتجاوز التجهيزات والترتيبات الجارية وتبادلنا الحلم بأن تصبح السينما التسجيلية أداة سحرية لنشر الثقافة ومحاكاة الواقع كما هوبعيون الوطن ، تاريخه وحاضره ، إنتصاراته وإنكساراته ، داؤه ودواؤه ، وكان الحديث عن أن الثقافة هى التى تجمع الشعوب تتآكل معها حواجز وأسلاك السلطة وتفتح الحدود لإرادتها المغيبة ومازالت،فى الزمن المعاصر لم تعد هناك فروق واضحة بين كل أنواع الفنون فالسينما بدأت كفن قائم بذاته ثم بعدها إستفادت من الرواية وعندما كانت السينما فتية تأثرت بالفن الروائى وإختلف الأسلوب وإختلفت طريقة السرد والآن لا يمكن أن تكون الرواية جيدة إذا كان كاتبها ليس على دراية جيدة بالفنون الأخرى ، ولكن هل يعنى هذا التقارب وأحيانا التداخل بين الفيلم والتسجيلى والفيلم الروائى أننا يمكن أن نشهد فيلما تسجيليا يحقق إقبالا جماهيريا من خلال شباك التذاكر مثلا؟صعب لأن السينما منذ بدايتها قدمتها السينما الأمريكية بإعتبارها صناعة مثل صناعة الورق أو الأثاث بينما هى ثقافة ولذلك فمن غير المتصور أن ينفق المنتجون أموالهم فى الأفلام التسجيلية بينما تدر عليهم الأفلام الروائية ربحا هائلا.
ولكن الغريب أن الفيلم التسجيلى ظل فن الصفوة رغم أنه الأكثر تعبيرا عن الواقع بتفاصيله وقسوته والأكثر جرأة فلماذا مازال بعيدا عن الناس؟
الواقع أن هذه الجرأة التى تتحدثين عنها تعود على الفنان هو الذى يعبر عن أفكاره ويوصل وجهة نظره ومن هذا المنطلق نحكم على العمل ما إذا كان جريئا وصادقا أم العكس .
وهنا لابد أن تحضرنا تجربته الرائدة فى مجال الدراما التليفزيونية التاريخية ( سليمان الحلبى وليلة سقوط غرناطة ، عنترة ،مصرع المتنبى وغيرها التى لم يستثنى أى منها من البقاء قيد الرقابة سنة وسنتان ليتم السماح بعرضها !و التى قدم خلالها معالجة ورؤية أكثر واقعية وموضوعية تعامل مع شخوصها كبشر تصيب وتخطأ لا قدسيين فهذه المعالجات الحية لا تقلل من قيمة ما قدموه وما ساهموا به بل على العكس إنها تعمق قيمتها فى ذهن المتلقى وتحترم تساؤلاته المنطقية والمشروعة ،السينما التسجيلية المعاصرة قدمت نماذج جريئة وحادة أحدثت ضجة كبيرة لوضوحها الذى إرتأه البعض نسفا لكل المحاذير إن جاز التعبير !
لدينا مثلا الفيلم التسجيلى ( فهرنهايت) للأمريكى مايكل مور الذى حقق إيرادات وصلت إلى أكثر من 120مليون دولار فى الأسابيع الأولى لعرضه فى 2004 وجائزة السعفة الذهبية فى مهرجان كان بعد أن قرر عدم ترشحه للأوسكار على أمل أن يساهم عرضه بالتزامن مع الإنتخابات الأمريكية إلى التأثير على الناخبين ، وكذلك فيلم (حقيقة مزعجة) عن نائب الرئيس الامريكى السابق آل جور على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم تسجيلى بعد أن قدم كشفا مؤلما عن حال التلوث البيئى وإرتفاع درجة حرارة الأرض ، وفى القاهرة أحدث الفيلم التسجيلى (القاهرة منورة بأهلها ) الذى عرض فى 23فبراير 1991للراحل المبدع يوسف شاهين ضجة فى الأوساط الفنية فى مصر والعالم العربى ،فقد كان إضافة غير معتادة وصادمة فى ذلك الوقت أبان فيها شاهين بجرأته المعتادة عن وجه القاهرة الذى نالت من ملامح بهائه البطالة والفقر والفكر السلفى الذى سيطر بطقوسه على الأجواء فأحدث نوعا من الإهتزاز العنيف للطابع المصرى المتفرد والضارب فى أعماق التاريخ،والآن بدا التقارب بين السينما التسجيلية والسينما الروائية بتداخل عناصر الوثائقية فى السينما الروائية والعكس يثرى الإبداع السينمائى فإتجه بكاميراته بين زحام الشوارع بدلا من جموع الكومبارس ،و التصوير فى الأماكن الطبيعية بدلا من البلاتوهات وإعطاء الإرتجال مساحة أوسع فى الحوار المكتوب ليعكس واقع فى عالم تتوالى هزائم الزيف فيه وتحتل فيه الحقيقة الحيز الأكبر بكل تفاصيله المرعبة وقسوته ، عيون الكاميرا إتخذت مواقعها خلف عيون الناس ، فقط تضاعف له الأضواء لتتجلى أمامه الحقيقة.