قراءة في المهرجان: الوثائقي سلاح الإنسان الأخير
عندما تشاهد الأفلام المشاركة في مهرجان الجزيرة الوثائقية في دورته الخامسة وتحاول أن تجد خيطا ناظما لها فإنك لن تجد غير الإنسان خيطا يتدلى من فيلم “أحلام دب” للتركي سافاس كاراكاس الذي تروي قصته ما فعل الإنسان بالدب وتروي الصورة ما يمكن أن يفعله الإنسان بالإنسان حين تكون الغابة خريطة البشر، يروض بعضهم بعضا. وصولا إلى فيلم “الكوميديا الإنسانية” للمصرية حنان محمد راضي وحكاية حقوق الإنسان في عالم يبحث الإنسان فيه عن حقه كي يكون إنسانا. مرورا بالفيلم النجيري “نيوليود السينما النيجيرية” الذي يروي معاناة مخرج نيجيري في إنجاز فيلم عن المرأة النيجيرية المضطهدة ويدخل السجن من أجل ذلك. هذا إضافة إلى المشاركات الصينية والأميركية اللاتينية المتميزة.. كل هذا الخليط من صور والبشر والأرض يرصد لنا حقائق فكرية وإنسانية في غاية الأهمية :
• الإنسان في دائرة الضوء : من جديد قد تختلف القصص ولكن المعاناة واحدة وقد تختلف الرهانات ولكن الأحلام واحدة إنها أحلام البقاء الكريم. فلو أخذنا على سبيل المثال الأفلام الفلسطينية المشاركة في المهرجان سنجد هذا الإصرار الكبير على البقاء على أرض تتحرك بفعل السياسة والغصب الفاضح للكرامة. وقد تم التعبير عن البقاء بأشكال شتى مثل الموسيقى في “فيلم أوتار مجهولة” حيث يقفز مبدعون فلسطينيون فوق الخلافات وفوق الجغرافيا السياسية الطارئة على أبناء الوطن الواحد ويلتقون من غزة ومن الضفة على وتر واحد ويعزفون لوطن واحد. فكانت الرسالة واضحة وجلية و مؤلمة في آن حين يصبح لقاء الفنان الفلسطيني من الضفة بأخيه من غزة لتلحين أغنية إنجازا عظيما أو طموحا ممكنا فذلك قمة بؤس الإنسان الفلسطيني.
![]() |
فيلم أوتار مجهولة
هذا في فلسطين في مكان آخر من العالم في أسبانيا يولد باسكال مبتور الذراعين ولكنه أحب الموسيقى فصار له جناحان يحلقا بهما في عالم الموسيقى .. تلك فكرة فيلم “طيران بلا أجنحة” القادم من أسبانيا. اختلف القيد ولكن اشتركت الإرادة البشرية في عزف الموسيقى في فلسطين الجريحة وبإرادة باسكال في أسبانيا. أو كذلك في الفيلم الياباني “حكاية الكلمات باليد” الذي يروي قصة معلمة مع خمس أطفال في مدرسة لتعليم الصم ليتعلموا لغة إشارة جديدة مختلفة عن تلك المتعارف عليها دوليا. وتلك حكاية أخرى من حكايات الإنسان الخلاق..
• المجتمع باعتباره حكاية وباعتباره واقعا معيشا مسيجا بالضغوط ومحصنا بالرموز. هو أيضا رهان صعب من رهانات الفيلم الوثائقي الحاضر في هذا المهرجان. ففي الفيلم الهندي “البحث عن البيت والأمل” تظهر صورة الأرض كفضاء جغرافي وصورة الأرض كنسيج اجتماعي وكلا الصورتين تكثفان معنى التهميش الاجتماعي والقمع في الوطن الواحد. إنها التراجيديا الاجتماعية التي يعيشها الإنسان مقيدا بين ضفتي الفقر والقمع. ذلك المعنى العميق لجروح المجتمع الموجعة ولكن بسكبن أخرى غير سكين الخلل الداخلي يأتي فيلم “أنا زينب” للمخرجة اللبنانية سلوى صعب ليختزل معاناة شعب ومجتمع وضاحة في قصة الطلفلة زينب التي عاشت الأمرين في الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006 كان الفيلم يحمل قوة من الأمل الساري في المجتمع اللبناني رغم كل شيء.
![]() |
الفيلم السويسري “غروزني تحلم”
ونماذج هذه الأفلام التي تناولت التراجيديا والأمل الاجتماعيين في عالم بائس كثيرة في هذا المهرجان(فيم “أولمبياد .. مختلفة” أو الفيلم الإيراني “الاغتصاب استراتيجية حرب” أو الفيلم الإيطالي الذي يتحدث عن الجدار العازل في فلسطين “الحياة في زمن الجدار” أو الفيلم اليوناني رسائل إلى الرئيس” ..الخ). فالمجتمع في الفيلم الوثائقي هو المحضن الأساسي للشخصية أو للموضوع وصورة الفرد هي في النهاية انعكاس لصورة المجتمع ونظام المجتمع هو المحصلة النهائية لتجارب فردية تعيش آمالها وأوهامها وتعيد إنتاج أزماتها.
• ذاكرة تنبض : من المشتركات القيمية للفيلم الوثائقي في هذا المهرجان هو حماية ذاكرة البشر من الاندثار. ولو ببقايا بشر. هذه الذاكرة التي تحتفي برموز الناس أفرادا وجماعات والرموز قد تكون خرافية أسطورية ولكنها ملهمة للجماعات التي تحمل في ذاكرتها تلك الأسطورة وهنا يأتي الفيلم الإيراني “علي بابا والأربعين حرامي” الذي يوظف الحكاية المشهورة عن شخصية علي بابا وتمثاله في بغداد وأما الأربعين حرامي فهو الاحتلال الأمركي. فيعيد واقع الاحتلال إحياء خرافة علي بابا والحرامية لأن ما حدث في العراق خرافي أيضا يتطلب التوثيق وحفظ الذاكرة كي لا تزول.
![]() |
فيلم من إنتاج شبكة الجزيرة بعنوان “النكبة”
فيلم إيراني آخر يحمل عنوان ” المقاس الأخير” يتحدث عن صناعة اللباس الديني في طهران من خلال شخصية خياط الخميني فكانت قصة آراب بور البالغ من العمر ثمانين سنة مناسبة للتعرف على تفاصيل حياتية لرموز السياسية والدين في إيران.
نفس الأمر مع فيلم “ما بعد فيديل” أو الفيلم اللبناني “إلى الضوء” الذي يروي قصة مقاتل يوغزلافي شارك في الحرب العالمية الثاني وشارك أيضا إلى جانب الفدائيين الفلسطينيين فيروي صورة أخرى من التقاء البشر على رمزية التحرر بعيدا عن قيود الجنسية والأرض. كما اشتغل الفيلم البرازيلي “كرة قدم” على تفكيك أبعاد هذه الرياضة في المجتمع البرازيلي حيث أضحت أملا وخلاصا حقيقا أو وهميا لمجتمع بأكمله.
الإنسان والمجتمع والذاكرة، تلك هي أقانيم الفيلم الوثائقي كما بدت لنا في هذا المهرجان. هي مدرارت الخلاص البشري في وجوده الفردي وتحديه لقيوده الموضوعية والحياتية وفي وجوده الجماعي حيث تسير جماعات بأكملها نحو التحرر والحفاظ على الجمال البشري وأخيرا الوجود الرمزي حيث ستذهب أجيال وتأتي أجيال وستتغير صور الفرد والجماعات ولكن رمزيات المجتمع السلبي منها والإيجابي ستظل محفورة في وجدان الناس. وبالتالي فإن من يغص في خبايا تلك الأفلام يخيل إليه أن الفيلم الوثائقي هو وسيلة الخلاص المثلى لبقاء البشر أو صورة لبشر. أو هكذا أزعم.