الجانب الآخر من الفن فى مهرجان السينما التسجيلية

لعلها كانت إحتفالية وملتقى لعذابات الإنسان فى كل مكان ،لعلها كانت إطلالة ونافذة على العالم من أقصاه إلى أقصاه تشعرك أنك لست وحدك فيما تعانى وفيما تحلم ، فيما تأمل فيه وفيما تسعى إليه ، تكتشف فى لحظة أن البشر على إختلاف مشاربهم يصبحون أقارب ومعارف وأصدقاء ، لحظات تفيض بالتأمل والدهشة ، تتشابك أيادى الأعراق والأجناس المتباعدة الأرض والملامح ، المختلفة اللغات والعادات والملل ، وتكتشف أنها أقرب مما تتخيل وأن الإختلافات تذوب وتلين ونحن نتقابل ونتبادل فنا بفن ومعاناه بمعاناة  والشاشة الكبيرة ، توثق وتعرض فى إشارة واضحة لمشاهدها تقول له سجل يا إنسان هكذا أنت تفعل وهكذا يفعلون بك ، فى نهاية فعاليات مهرجان الجزيرة الخامس للأفلام التسجيلية تتأكد أهمية ومدى تأثير هذا الفن على الناس وكيف يمكن أن يصبح أداة شديدة الأهمية فى المساهمة فى التعريف بالثقافات المختلفة وإلقاء نظرة شاملة على تجارب الشعوب ، وتوثق لحجم المظالم التى تتعرض لها شعوب عديدة ينهش الفقر والجهل والقمع إنسانيتها ، تتوحد دموع وآهات المظلومين والمضطهدين فى لوحة تتسلل إلى العمق لتنتفض الأسئلة فى أذهان الجميع نبحث معا عن إجابة تشفى عدم فهمنا وتشبع فضولنا، الواقع السياسى الذى تعيشه الأمة ومحنها المتداخلة سيطر على موضوعات الأفلام التسجيلية التى إضطلع بها شباب على درجة عالية من الحماس والفهم   ، خلا مهرجان الجزيرة من النجوم لكن تجارب الشباب وجرأة الموضوعات المختارة لمعالجتها شكلت فى حد ذاتها نجومية للمهرجان ، وبعيدا عن التقييم الفنى لمستوى الأفلام التسجيلية القصيرة والمتوسطة والطويلة ، فإن هناك تجارب وسمة عامة ،كونت فى حد ذاتها لغة مشتركة لمعظم الأفلام المشاركة ، وهى المعاناة الإنسانية التى أوجدتها الفوارق المأساوية بين من يملك ومن لا يملك بين الدول المستغلة (بكسر العين) والدول المستغلة(بفتح العين) ، القهر وإستخدام القوة المفرطة فى الأنظمة الديكتاتورية ، ومعاناة الإنسان من جراء الحروب العرقية التى شردت الملايين ، حتى معاناة الحيوان حينما يسلبه الإنسان حريته وينزع عنه قوته وينتهك طبيعته ويزج به بين القضبان ساخرا ومستغلا وقاسيا كما شاهدناه فى فيلم المخرج التركى سافاس كاراكاس ” أحلام دب” الذى إرتأت إدارة المهرجان أن يكون فيلم الإفتتاح مع الفيلم الفلسطينى أوتار مجهولة لمخرجه رفعت عادى الذى يصور معاناه شباب من الموسيقيين فى ظل الإحتلال فى محاولتهم الحفاظ على الهوية الفلسطينية وتراثهم الاصيل فى ربط متعمد بين عالمين كلاهما محاصر ومكبل ومنتهك إلى أقصى حد وهناك من يمرح وينتشى ويسرق أحلام الآخرين ،كان من الطبيعى والمتوقع أن يسيطر الوجع الفلسطينى على العديد من الأفلام التى إسترجعت أيام نكبة الشعب الفلسطينى التى تواصلت لتشكل نكبة أمة ثم الموت يأتى من السماء وحرب تموز وما وراء الرمادى والأزرق وحفنة تراب حيث حياة بعض من اللاجئين الفلسطنيين الذين طردوا من ديارهم وبالتحديد فى قرية طيرة حيفا والقرى الفلسطينية الأخرى عام 48 وثمن الإنتظار وما تمارسه إسرائيل من فنون القمع وخرق لكل قيم حقوق الإنسان فى تعاملها مع المقدسيين ، أما بلال وبيت التقاعد وتانجو حياتى ، فكانت نماذج جذبت جمهور المشاهدين للإصرار الإنسانى حين يتحدى ويتعايش ويحيل معاناته وأقداره التى لم يصنعها هو إلى حياه أجمل يكللها الامل فى مستقبل افضل ، وأتصور أن فيلم بلال للمخرج الهندى سوراف سارانجى الذى نال ذهبية المهرجان قد إختير من قبل المشاهدين قبل لجنة التحكيم الذين صفقوا له كثيرا ، حيث قدم حالة إنسانية شديدة الخصوصية وشديدة العمق وهو يصور لنا حياة لطفل فى الثالثة من العمر لأبوين فاقدى البصر يعيشان داخل غرفة صغيرة وكيف تحولت الحياة إلى إبصار فعلى وهو يجسد لنا لحظات حميمية تختلط فيها قسوة الحياة بالأمل لتتجدد وتسير الحياة بقوة ربما لم يتصورها أصحابها ذاتهم حين منحتهم الحياة هذه الفرصة النادرة ، كذلك كان للأفكار المبتكرة التى تختزل داخلها الكثير من المعانى مثل فيلم رمسيس السيارة للمخرج المصرى الشاب رامى كريم ، وهى فكرة شديدة الذكاء عادت بالذاكرة إلى أيام الوطن الخوالى حين أراد عبد الناصر أن يبنى صرحا صناعيا فى مصر يكون قاعدة لوحدة أقتصادية للوطن العربى وخطوة نحو الإعتماد على قدراتنا الذاتية ، فالسيارة رمسيس كانت رمزا لطموح أن نملك إرادتنا وأن نكون قادرين على التحدى كانت السيارة رمسيس نموذجا للمشروع القومى الذى أجهض والحلم الذى تحول إلى كابوس ينسف الخطوة الأولى ليعيدنا إلى قواعدنا تابعين غير آمنين ،أما عن معاناة الشعوب من جراء الحروب والصراعات العرقية فقد قدمته مجموعة من الأفلام مثل ايسيتا خلف الحاجز للمخرج خوان رينا الذى يتناول عملية الإبادة الجماعية فى رواندا  سنة 1994وحجم المجازر التى ارتكبت هناك وشهادات مرعبة من الناجين من هذه الماساه ، وهى أكثر بشاعة بالتأكيد من تلك التى تودى بحياة الآلاف من البشر ضحايا الكوارث الطبيعية رغم قسوتها وما تخلفه من مآسى كما شاهدنا فى فيلم محاصرون وسط الاعاصير لمخرجته فابيولا لوبيز أوضحت فيه الدمار الهائل الذى خلفته الأعاصير التى ضربت كوبا عام 2008وقد ألقى الضوء على التلاحم الإنسانى الذى يمثل درع المقاومة الرئيسى فى مثل هذه الكوارث يتلاحم الغرباء فى معزوفة إنسانية تتحدى الماساه، إطلالة أخرى على معاناه البشر بفعل البشر وبفعل أنظمة وعادات وقيم لا تحمل فى حقيقتها إلا مزيد من الدمار لضحاياها ووضعهم فى دوائر الإنتهاكات اليومية ، أمهات عازبات لرشيد القاسمى من إنتاج الجزيرة عن ظاهرة الأمهات اللائى إزدادت أعدادهن فى المغرب وبدأت منظمات غير حكومية بمساعدتهن والبحث عن الأب الشرعى لأبنائهن وهو إختيار جريئ يحسب للقائمين على الفيلم ، فهو موضوع هام وحساس فى مجتمعات يحتل عقليتها الفكر الذكورى ويمارس هزائمه وتخلفه فى قهر المرأة ووضعها فى موقع المتهم والمنتهك دوما ، و يدخل ضمن الموضوعات الأكثر جرأة أيضا فيلم ” فى الليل ” ، فحين يجيئ الليل وتخرج من بين أضوائه المصطنعة وخطوط الأصباغ ورائحة البنكنوت ،تخرج وجوه لفتيات فى عمر الزهور ضاقت بهن أسرهم وسط هموم الحياه فألقوا بهن إلى الطرقات إلى عالم يدخل فيه الجمال عالم النخاسة ويسلط الضوء على حجم التناقضات المفزعة والمريضة لعقلية البعض من الشرقيين ،و كيف تنتهك البراءة ويباع اللحم البشرى على قارعة الطريق ، كانت لا شك جرأة من مخرجته سوسن درازة التى إقتحمت عالم المسكوت عنه وهو كثير فى مجتمعاتنا ، قد تكشف تجارب المبدعين المزيد منها فى العام القادم فأيامنا حبلى بالكثير والكل ينتظر فلننتظر


إعلان