” موسيقانا ” لغودار..بلاغة الوثيقة

 
 ضمن فعاليات الابداع الشهرية التي تنظمها دارة الفنون في عمان، عرض مؤخرا الفيلم السويسري المعنون ” موسيقانا”  (2004)للمخرج السويسري / الفرنسي الجنسية جان لوك غودار، وفيه واصل أسلوبيته المعهودة في لعبته السمعية البصرية على حدي الوثائقي والدرامي بافتتان بليغ.

جان لوك غودار

يغوص غودار في أجواء جديدة من المعاناة، التي تعيشها مجتمعات إنسانية متباينة في ثقافاتها، وموزعة على خريطة العالم عبر رحلة يقوم بها إلى مدينة سراييفو عاصمة بلد مثل البوسنة، الذي انفصل مؤخرا عن يوغوسلافيا السابقة، وهو هنا يعيش وسط طلاب الدراسات السينمائية ويمنحهم لحظات من تجربته وخبرته في حقل صناعة الافلام المختلفة سواء على صعيد لغتها البصرية او الفكرية الملتصقة بقضايا وهموم الناس بعيدا عن تيار السينما التقليدية السائدة.

يخوض غودار لعبته السينمائية الجديدة، والتي تسرد في ثلاثة فصول أساسية تندرج تحت عناوين : ” الجحيم ” ، “الطهارة ” ، ” الجنة ” ما عاشته الإنسانية من ويلات الحرب ومآسيها، نابشا في ذاكرة وأفكار شخصيات مؤثرة على الصعيد الجمالي والفلسفي في تجوالها الطويل مع الإبداع، مثل حضور الشاعر الراحل محمود درويش البديع في مناقشته لرؤيته في مسالة الصراع العربي الإسرائيلي.. أو عبر تلك اللقاءات التي يقوم فيها المخرج بإعطاء دروس تدريبية لسينمائيين شباب رأوا في كاميرا الفيديو الرقمية وسيلة للتعبير عقب خروج بلدهم من مأساة حرب مروعة.

يتكيء غودار في فيلمه ” موسيقانا ” على ذاكرة الحرب وتداعياتها على الذات الانسانية، في تناول مفعم بألوان وموسيقى في أشكال مبتكرة من صنوف التعبير السمعي البصري، ومستعينا بمشاهد من الوثائق الفيلمية باللونين الأبيض والأسود ، وبالصورة الفوتوغرافية الآتية في أكثر من حرب ضروس ، عايشتها البشرية خلال أكثر من حقبة زمنية معاصرة : هناك مثلا إطلالة على حروب الهنود الحمر، والحربين العالمية الأولى والثانية، وحروب فيتنام والهند الصينية ، والحروب العربية الإسرائيلية التي تأخذ النصيب الواسع من مضمون أحداث الفيلم وسرديته التجريبية اللافتة ، وأيضا هناك حروب أميركا اللاتينية والبوسنة والعراق ..

 كل ذلك يجري بلغة ومفردات سينمائية تتجاوز إلى حد بعيد الرؤية التقليدية التي درجت على تقديمها السينما السائدة والمطعمة بمشاهد القتل والدمار، وإنما هنا عبر ملازمة الكاميرا لأفراد هم من الشخصيات التي تحمل معاناتها في ترحالها المتواصل، جراء تلك الحروب وما علق في ذاكرتهم من تعابير تفضي إلى قبس من الإبداع، بحيث يتجاوز وقعها على المتلقي مناظر الألم والقسوة والقتل والدمار، وكل ما تخلفه الحرب من ويلات على ارض الواقع ووجدان البشر.

يعتبر جان لوك غودار اليوم، احد ابرز أقطاب الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، وهو القادم إلى الفن السابع بعد تجربة متمرسة في كتابة النقد السينمائي في مجلة راسخة هي ” دفاتر السينما ” تسلم رئاسة تحريرها وهو في مطلع العقد الثاني من عمره، والتي قدمت أسماء زملائه الآخرين لعالم السينما مثل : فرنسوا تروفو، جاك ريفيت، ايريك رومر، الآن رينيه، لوي مال، كلود شابرول، وآخرين .. الذين غدوا تيارا عريضا في حقل ما اصطلح على تسميته بسينما المؤلف، وصارت نتاجاتهم السينمائية تدرس في الكثير من المعاهد والجامعات والأكاديميات المتخصصة بالعالم .

حقق غودار (75) عاما فيلسوف السينما المعاصرة طوال مسيرته الطويلة مع الفن السابع الكثير من الأفلام السينمائية من بينها : ” على آخر نفس ” ، ” الجندي الصغير ” ، ” ألفا فيل ” ، ” بييرو المجنون ” ، وسواها ..  التي غدت قامات رفيعة في الفن السابع، واستقبلها النقاد وعشاق السينما في أرجاء المعمورة بحفاوة شديدة، وجرى تكريم العديد منها في المناسبات الكثيرة، ومنحتها المهرجانات السينمائية العالمية العديد من الجوائز الرفيعة.   


إعلان