ماذا تشكل الدراما التلفزيونية للشارع العربي؟

ما الفراغ الذي تملؤه؟

دمشق – يامن محمد

لن نناقش ماهية التلفزيون وشرط التلقي الخاص به، الذي يقتحم من خلاله البيوت والأسوار ليشاركنا غداءنا وعشاءنا وجلساتنا، ولن نقارن بين المسلسلات التلفزيونية وبقية الفنون، ولن نناقش أصلاً مسألة أن المسلسل التلفزيوني فن أم لا، ولن نتطرق إلى آراء كبار الفنانين العالميين من أمثال سلفادور دالي عند بداية انتشار هذا الاختراع في المعمورة وتأثيره المباشر وغير المباشر على الصغير والكبير في الأسرة.. ولن نتحدث عن كونه في عالمنا العربي سلعةً وافدة كبقية الاختراعات التي غيرت في حياتنا طولاً وعرضاً، ولن نتساءل إذا كانت هذه الاختراعات غيرتنا في الحقيقة أم لا، بل سنتحدث عما يخصنا، أي ما أبدعه العرب وولدوه في هذا المجال وما هوَ خاص بهم وبمناخهم وحياتهم، والأهم من ذلك تفاعل الشارع العربي مع الدراما العربية، وغير العربية.

الدراما؛ وما أدراك ما الدراما!

من الغريب حقاً أن تختصر في العالم العربي النشاطات الثقافية والفنية المتعلقة بالشارع بمجال واحد وطاغٍ هوَ التلفزيون، وبشكل أدق المسلسلات، التي صارت تسمى ـ للدقة أيضاً ـ المسلسلات الرمضانية. والمقصود بالشارع هنا؛ الطبقات والشرائح الأوسع من الناس، التي تعتبر المقياس، ونشدد هنا دون أن نضعها بين قوسين أو أكثر على كلمة المقياس، على نجاح أي فن من الفنون وكفاءة العاملين فيه.
أما عن غياب أي نشاطات أخرى يكون لرأي الشارع حكم فيها، فهذه قضية يطول الجدل حولها، والحديث عن أسبابها في عالمنا العربي، ولكن يكفينا الآن التذكير، أنه لا يوجد مسرح حقيقي في العالم العربي، ولا سينما، وبالطبع ليست عادة، أوطقس، ذهاب الأسرة لحضور فرقة أوركسترا تعزف سيمفونية لعرب ألفوها، أو غير عرب، بالعادة المترعرعة والمتأصلة، أو حتى الموجودة، في عالمنا العربي، ولكي نستمر في حديثنا على بينة، لا بد لنا من ذكر الحقيقة التي طالما كان يذكرنا فيها ممدوح عدوان رحمه الله، وللصدفة وردت أيضاً في كتابه “حيونة الإنسان” وهي: إن رواج أي عمل فني أو أدبي أو كتاب في مجتمع إنما يدل على طبيعة هذا المجتمع وثقافته..

ولنكون على بينة أكثر، دعونا نتذكر أيضاً، أنه في عالمنا العربي بشكلٍ عام، كان من غير المسموح به أن تترعرع فنون أو أدب، أو كتب، يتم من خلالها التعبير عن الرأي الحر، أي ممنوع أن ينشأ فن يعري السلطة ويناقش هموم المجتمع بحرية، وهذا عائد إلى أسباب كثيرة، منها طبيعة الأنظمة، والأهم من ذلك ولا أعتقدني مغالياً، طبيعة المجتمعات أيضاً، والدراما التلفزيونية نشأت في العالم العربي ضمن هذه الظروف ومحكومة بهذه الشروط.
ذكرنا كل ذلك للعودة إلى مسألة المقياس، وهي مسألة في غاية الأهمية، فما نلاحظه اليوم هوَ بروز ظاهرة المسلسل (الضارب)، وهي ظاهرة تثير الكثير من التساؤلات، ولها العديد من الدلالات، ويمكن الاستفادة منها والتوصل إلى نتائج هامة في ظل غياب نظام إحصائي عربي حقيقي، أيضاً. ولكن قبل الولوج في معمعة كهذه لابد من التنويه والتذكير بحقيقة بدهية جداً، والتي بمقدار ما هي بدهية بمقدار ماهي مغفلة وغائبة، إلى درجة وقع فيها بعض المثقفين والمخرجين التلفزيونيين، والممثلين في مطب عدم التمييز، وهي أن نفرق بين الرائج وبين الناجح، والمقصود بالناجح هنا: الناجح فنياً أما الرائج فنقصد به “الضارب”. وهذا ما أفرز ظاهرة جديدة، يمكننا اعتبارها إحصائية أيضاً، فبعد ظهور المسلسل الضارب، تظهر الآراء الضاربة، فتقرأ في الجريدة الفلانية المخرج الفلاني يقول، مثلاً، إن سبب “نجاح” مسلسل سنوات الضياع، هو النص المحكم والمتين، ويأتي مخرج آخر ليقول، إن المسلسل “نجح” لأن المخرج، أي مخرج سنوات الضياع، فهم جيداً الأبعاد النفسية والدرامية لأبطاله، ولأن الممثلين بارعون، أو، وهوَ الأغرب، أن تصرح المشرفة على دبلجة سنوات الضياع والمسلسل التركي الآخر معترفة بتفاهة المسلسلين عبر قناة الجزيرة ضمن برنامج الاتجاه المعاكس الذي يعده ويقدمه الدكتور فيصل القاسم، أن ذلك مرده إلى غياب مسلسلات عربية طويلة، أي أكثر من مئة حلقة، وإلى ماهنالك، أو أن باب الحارة “نجح”، لأنه استطاع أن يعيد للرجولة ألقها، ويذكرنا بعزتنا وكرامتنا، كما قال أحد المثقفين المصريين المؤيدين للدراما السورية عبر قناة الجزيرة أيضاً، وفي البرنامج ذاته.

غالبية هذه الآراء تركن إلى تقييم الجمهور، وهذا يمكن رده إلى عدة أسباب، وأهمها على صعيد المثقفين على الأقل، الإرث الأيديولوجي القديم المرتبط باليسار الكلاسيكي، الذي يؤكد أن الجمهور العريض يقول كلمته، والأمر الذي يرغبه الناس هوَ الجيد والصواب، والسبب الثاني، للمفارقة، هوَ راهن وعكس الأول، أي إنه متعلق بثقافة الرأسمال بامتياز، بمعنى أن المسلسل ذا المدخول الأكبر هوَ الأنجح، أو الذي يحظى بنسبة مشاهدة أوسع وجمهور أكبر، الدولار هوَ الذي يتكلم هنا ويحسم، ولو كان بأكثر الطرق استهلاكيةً، وبين الرأيين يبقى المتفرج العربي راضياً قانعاً وربما ضائعاً، منتظراً في دخيلته الفن الحقيقي ليرقيه ويرفعه، كما هي وظيفة الفن الحقيقية، وإن لم يدغدغ مشاعره السطحية وغرائزه، وأكثر من ذلك، حتى لو أزعجه وضايقه ووضعه في الزاوية بينه وبين نفسه؛ وهذا ربما ما يبرر النسبة العالية من التصويت حوالي 80% ضد المسلسلات التركية في برنامج الاتجاه المعاكس، وربما من قبل الناس أنفسهم الذين تابعوا هذه المسلسلات بالتحديد.


إعلان