“فايروس” من نوع جديد…

أحد الأفلام التي شوهدت مؤخراً في مهرجان »الخليج الثاني للسينما الوثائقية«، وهو فيلم »?ايروس« لمخرجه  جمال أمين، شاب من العراقيين المقيمين في المهجر.

فيلم لا بأس بتقنياته والمفردات الفنية المختارة لصياغته، يدور حول خمسة أصدقاء عراقيين في سيارة واحدة تشق طريقها على الطريق السريع خارج كوبنهاغن. السائق وأحد ركّابه من الشيعة. راكبان من السنّة وراكب كردي0 إذ تنطلق السيارة بهم يحاول السائق الإستماع الى موشّحات دينية شيعيّة فيعارضه أحد الركّاب السنّة بلطف. يستجيب السائق ويغلق آلة التسجيل. لكن الحديث لا يتوقّف، ولنحو ربع ساعة، حول الوضع في العراق والتفرقة التي يعيشها أبناءه والوضع الطائفي والعرقي بأكمله. خلال ذلك النقاش يعبّر كل عن مصدره ورؤيته الخاصّة للأمور، ويلفت وضع الشاب الكردي الذي لا يعارض الإنفصال على أساس أن عرقية الأكراد ليست ذاتها عرقية باقي العراقيين من العرب
يبرز في خلال هذا النقاش، وبسبب من تركيز الكاميرا عليه قليلاً أكثر من سواه، السنّي الجالس في المقعد الثاني (من ثلاثة) الذي يدير الحديث والمنطلق من مبدأ ضرورة أن يبقى العراق، كما كان، وحدة كاملة ينخرط فيها الجميع0
فجأة يُعيد السائق الضغط على زر التسجيل فينطلق الدعاء الشيعي وهذه المرّة تفشل نداءات السنيين بإقفال التسجيل ويصر السائق على الإستماع لما يُريد. وهذا الموقف ينتهي بنزول السنيين في طريق فرعي وانطلاق السيّارة من دونهما0
بعد قليل، يركب الإثنان سيّارة يقودها مهاجر أفريقي تنطلق في ذلك الطريق الفرعي فإذا بالسيّارة الأولى متوقّفة بداعي التصليح لعطل طرأ عليها. ينزل الراكبان وما هي الا لحظات ويتم تصليح ذلك العطل وتنطلق السيارة الكبيرة بكل ركّابها0

لقطة من فيلم فايروس 

على سلاسة التصوير وبساطة الفكرة الا أن هذا الفيلم لديه مشاكل مختلفة  تتصل في معظمها بصياغة ومعالجة الفكرة التي يمكن تلخيصها الى: خمسة أصدقاء عراقيين في سيّارة يتداولون الشأن العراقي. يختلفون. يتلاقون0
في الأساس لم يكن صحيحاً اعتبار هذا الفيلم وثائقياً لا إذا نظرنا الى مضمون وهوية الفيلم الوثائقي على نحو عام، او حسب حرفية الكلمة كونه ليس عملاً غير روائي من ناحية، وليس توثيقاً لموضوعه من ناحية ثانية. وإذا ما استخدمنا المصطلح الآخر للكلمة وهو »السينما التسجيلية« فإنه يسجل الحركة لكن كذلك تفعل كل الأفلام بما فيها أفلام »سيّد الخواتم« و»هيروشيما حبي« و»أم وإبن« و»كاغاموشا« وسواها0
إذاً؟
ليس فيما ذكرته او سأمضي فيه أي إدانة للمخرج نفسه. فالفيلم المعروض تمّ تبعاً لرغبة مخرجه التي كان لابد لها أن تسقط في شرخ قائم بسبب المعالجة واختيار اسلوب لسرد الموضوع. مع قليل من اختيارات التصوير والتصرّف كان يمكن تلافي بعضها خصوصاً وأن المخرج لديه عيناً جيّدة ومعرفة صحيحة بما يخصصه من لقطات لنقل أي نبض من الحياة والموقف0

فيلم جمال أمين روائي بتركيب عليه أن يبدو أنه ليس كذلك…

جمال أمين

توظيف معالجة عامّة غير روائية لـ »إخراج« مشهد.  المشهد يوظّف الشخصيات التي لم تظهر على الكاميرا من قبل لتأدية  »مواقف« متّفق عليها ويستخدم حصول خلاف متّفق على حدوثه لكي يخرج إثنان من ركّاب السيارة ثم ليعاودا لقاء المجموعة من جديد ايصالاً لمفاد: أنه لا خلاف بين أبناء الوطن الواحد0
المفاد المذكور يبدو أمنية مع ضعف سياق الموقف المتّفق عليه. خروج الصديقين قد يُقبل على ضعف ظروفه وأسبابه (لا مبرر لاصرار السائق على موشّحاته إذا ما كان الجميع أصدقاءاً بالفعل) لكن تلك المصادفة التي تجعل السيارة الكبيرة بإنتظارهما بعد قليل فيتبادل الجميع التحية والأحضان سريعاً وإذا بالعطل المذكور عابر وليس ذي بال، هو ضعف جلي في كيفية استخلاص المادّة0
ومن البداية تلحظ أن الموضوع مرتّب. في كل سيّارة هناك مسألة أين ستكمن الكاميرا.  المخرج حل المسألة بإجلاس نفسه (مصوّراً) لجانب السائق، لكنه بذلك -ومع محاولة الباقين تجاهل وجودها كما لو كان الفيلم روائياً- فإنها كسرت مبدأ الصداقة من الأساس إذ احتلّت محل راكب من هؤلاء إذ من الطبيعي أن يجلس أحدهم الى جانب السائق حسب المتعارف عليه الا إذا كان السائق يقود سيّارة تاكسي او كان »شوفيراً« خاصّاً0
بخلو الفيلم من شروط الفيلم غير الروائي يحتفظ بما هو محاكاة. هذا هو ذات المبدأ الذي سيّر فيلم الأخوين لوميير »خروج العمّال من مصنع لوميير« قبل 114 سنة: الكاميرا ثابتة عند بوابة المصنع. تُفتح. يخرج العمّال. ينتهي الفيلم0
لكن في هذه الحركة البسيطة التي اعتبرت -دوماً- وثائقية ومنها تم اعتبار السينما على أنها وُلدت وثائقية، تم تصويرها أكثر من عشر مرّات بإجماع الوثائق المتداولة (أعتقد أربعة عشر مرّة) ما يعني أن كل ما شوهد كان »مرتّباً«. كل هذه »الحقيقة«، إذا أردت القول، كانت مفبركة. ليس في الصميم- فهؤلاء فعلاً كانوا عمّالاً، ولكن في المحاولات المتكررة لـ »إخراج« المشهد. لذلك فإن كل فيلم من هذه الأفلام يختلف قليلاً عن الآخر. في واحد منها هناك رجل يخرج جارّاً دراجته الهوائية، بينما في آخر يركبها. في واحد هناك كلب يمشي أمام الجموع، في آخر لا وجود للكلب  الخ….0
بتطبيق ذلك على »?ايروس« فإن العمل مرتّب ليظهر كما لو كان تسجيلاً لحوار وموقف وحدث. هذا الترتيب، بالمناسبة، يجب أن لا يُعتبر المقصود بما اصطلح على تسميته بـ »الدوكيودراما« (خليط الدراما مع الوثائقي) لأن في ذلك أيضا مواصفات غير متواجدة في هذا الفيلم0


إعلان