مهرجان “كان” الـ 62: الأزمة مرّت من هنا!

إقبال فاتر من الجمهور، وتراجع عدد المشاركين الرسميين بنسبة 20 بالمائة:   

كان ـ عثمان تزغارت

الذين تعوّدوا على متابعة أو تغطية مهرجان “كان”، من صحفيين ونقاد وسينمائيين، بُهتوا بالفتور وقلّة الإقبال اللذين اتسمت بهما هذه الدورة الثانية والستين في أيامها الأولى، حيث بدا واضحا أن الأزمة مرّت من هنا. صحيح أن الأفلام المعروضة في هذه الدورة تعد إحدى أخصب تشكيلات المهرجان، إذ لم يسبق أن اجتمع مثل هذا العدد من كبار السينمائيين، ولم يسبق أن نجح أي مهرجان في استقطاب أفلام وتجارب سينمائية بمثل هذا الغنى والتنوع. لكن الأزمة المالية العالمية ألقت بظلالها بشكل واضح على النشاطات والفعاليات الاستعراضية التي تُقام على هامش المهرجان، والتي تصنع خصوصيته وتميزه…
من الواضح أن إقبال الجمهور على هذه الدورة تراجع بشكل كبير، مقارنة بالمعدّلات المعتادة. وذلك بالرغم من الطقس المواتي، حيث كان الجو هذا العام مشمسا في غالب الأوقات، خلافا للأيام الأولى من دورات السنوات الثلاثة الماضية. ولم يقتصر الأمر على فتور إقبال الجمهور الواسع، بل شمل أيضا صنّاع السينما ومتتبعيها، من منتجين ونقاد وصحفيين، حيث يدور الحديث، بما يشبه الهمس، في كواليس المهرجان، عن تراجع عدد المسجلين رسميا في المهرجان بنحو 20 بالمائة. وهو رقم مهول: فمعناه أن حوالي 1800 من محترفي السينما والنقاد والإعلاميين لم يتمكنوا من التنقل لحضور هذه الدورة، بسبب تأثيرات الأزمة المالية العالمية. وبالرغم من أن إدارة المهرجان لم تؤكد هذه الأرقام رسميا، إلا أننا لمسنا ذلك بوضوح في كواليس المهرجان، وأيضا خلال العروض الرسمية الأولى التي قُدّمت خلال الأيام الثلاثة الأولى من المهرجان. بما فيها العروض الصباحية، وهي عادة العروض الأبرز في المهرجان، والتي قدّمت فيها أفلام “حوض الأسماك” للبريطانية أندريا أرنولد، و”النجمة الساطعة” للنيوزيلندية “جين كامبيون”، و”نبي” للفرنسي جاك أوديار.

جاك أوديار

وقد تعوّد الصحفيون والنقاد، خلال الدورات السابقة ـ وبالأخص في العروض الصباحية ـ على الاصطفاف في طوابير طويلة، وانتظار ما لا يقل عن ساعة كاملة، للظفر بمكان لمتابعة العرض. لكن العروض الأولى من دورة هذه السنة خلت من أي زحمة أو انتظار.. حتى عرض الفيلم الصيني “ليلة انتشاء ربيعية”، الذي صوّره السينمائي المشاكس، لو ـ يي، وأخرجه من بلاد ماوتسي تونغ في سرية تامة، لم يحظ، هو الآخر، بأي إقبال إضافي، رغم موضوعه المثير ورغم الروح المتمردة التي يشتهر بها مخرجه…
وقد تأكدت تأثيرات الأزمة أكثر، من خلال الأجواء العامة للمهرجان، حيث كانت حركة المرور على شارع الكروازيت، هذه السنة، روتينية للغاية، حتى في عزّ أوقات الذروة. في حين كانت السلطات مضطرة لإغلاق الشارع بالكامل، في السنوات السابقة، بسبب استحالة تنظيم المرور بمحاذاة قصر المهرجان…
وبخلاف هذا التأزم الذي طبع الأجواء العامة للمهرجان، كان العروض الرسمية الأولى، التي قدّمت خلال الأيام الثلاثة الماضية، عند مستوى الثراء والتنوع المرتقب من هذه الدورة. فالبريطانية أندريا أرنولد، التي كان فيلمها “حوض الأسماك” أول عرض رسمي في المسابقة هذه السنة، قدّمت عملا آسرا يؤكّد التوقعات بتميز المشاركات النسائية في هذه الدورة.

أندريا أرنولد

ويروي الفيلم قصة إنسانية مؤثرة عن مراهقة تدعى “ميا”، في أحد أحياء الضواحي الشعبية اللندنية، تناضل من أجل تحقيق ذاتها، وتجد خلاصها في هواية الرقص، التي تلجأ إليها هربا مما تعانيه في وسطها العائلي والاجتماعي المشوب بالكثير من العنف والتوتر. وكان ملتفا أن اللغة السينمائية لهذا الفيلم اتسمت بالـ “مينيمالية”، حيث اختُزلت الحوارات إلى أقصى الحدود، فكان الصمت أكثر بلاغة في التعبير خلال أغلب مشاهد الفيلم (عدا مشهد الرقص، طبعا). الشيء الذي يذكّر إلى حد بعيد بسينما المعلم التركي الكبير نوري بيلج شيلان، الحاضر هذه السنة في لجنة التحكيم. مما يزيد من حظوظ أندريا أرنولد في الفوز بإحدى جوائز هذه الدورة (جائزة الإخراج، على الأرجح…).
أما السينمائي الصيني المشاكس لو ـ يي، فقد صوّر في “ليلة انتشاء ربيعية” قصة حب مثلية تدور أحداثها في المجتمع الصيني حاليا، في سابقة هي الأولى من نوعها على الشاشة. وقد كانت اللغة البصرية المتقنة التي اتسم بها هذا الفيلم، فضلا عن موضوعه الجريء، والروح المتمردة التي يشتهر بها مخرجه، دافعا لبعض النقاد لترجيح حصوله على إحدى الجوائز الكبرى للمهرجان، بالرغم من أن الوقت ما يزال مبكرا جدا لإطلاق هذا النوع من التكهّنات. فدورة هذه السنة ما تزال تخبئ الكثير من المفاجآت والأفلام المميزة، وخاصة مع بدء عرض أفلام أصحاب “السعف الذهبية” المشاركين في هذه الدورة. وفي مقدمتها فيلم “النجمة الساطعة” للنيوزيلندية جين كامبيون، الذي قدّم أول أمس الجمعة، والذي شكّل المحطة الأبرز في المهرجان، حتى الآن.

فيلم البيانو: السعفة الذهبية 1993

من المعروف أن كامبيون تعد المرأة الوحيدة الحاصلة على جائزة “السعفة الذهبية” (“درس البيانو” ـ 1993). وهي تعود هذه السنة، بعد غياب دام 5 سنوات (فيلمها الأخير  Cut Into The يعود إلى العام 2003)، لتقدم من خلال “النجمة الساطعة” فيلما شاعريا رقيقا مستحوى من سيرة الشاعر الرومانسي البريطاني الكبير جون كيتس (1795 ـ 1821)، الذي غيّبه الموت مبكّرا في ظروف درامية، حيث توفي بالسل الرئوي في روما، وهو في سن السادسة والعشرين..


إعلان