كان 62 : فرانسيس فورد كوبولا يتحدى هوليود وكان!
حين أعلن السينمائي الكبير، فرانسيس فورد كوبولا، قبل عامين، أنه يعتزم تصوير فيلم ملحمي مطول مستوحى من سيرة ثلاثة أجيال في عائلته، توقّع كثيرون أن ينجرّ صاحب “نهاية العالم الآن” نحو سقطة مدوّية جديدة، على غرار العثرات المتكررة التي اشتهر بها، طوال مسيرته الفنية الحافلة بالتحوّلات، التي جعلته يُلقّب بـ “نابليون السينما”حينا، وبـ “نيرون الفن السابع” حينا آخر!
فمن “وادي السعادة” (1968) إلى “ناس المطر” (1969)، من “العرّاب” (1971) إلى “محادثة سرية”(1974)، ومن ” نهاية العالم الآن” (1979) إلى “ضربة قلب” (1982).. تعوّد كوبولا، الذي يشتهر بمزاج ناري وطموح فني بلا حدود وأنا منتفخة تقارب جنون العظمة، على التقلّب باستمرار بين النجاحات المبهرة والسقطات المدوّية. فما إن ينجح في تقديم فيلم رائج، ويجتمع لديه ما يكفي من المال، حتى يُطلق العنان لمخليته الخصبة، وينصرف إلى تحقيق أفلام مستقلة، طموحة على الصعيد الفني، لكنها غير مربحة تجاريا. مما أوصله إلى حافة الإفلاس مرات عدة…
![]() |
فرانسيس كوبولا (AFP)
وبالرغم من أنه احتفل، الصيف الماضي، بعيد ميلاده السبعين، إلا أنه لم يفقد شيئا من تلك الروح الجسورة والمغامرة. فما إن نجح فيلمه قبل الأخير “رجل بلا عمر” (2007)، حتى أعلن أنه سيصوّر فيلما ملحميا بعنوان “تيترو”، مستوحى من سيرة عائلته، وأنه سيموّله، بشكل مستقل تماما، من عائدات ذلك “رجل بلا عمر”، ومن أرباح النبيذ الذي يحمل اسمه، والذي تفرغ للاعتناء به، طوال عشر سنوات، منذ أن اعتزل السينما بعد الفشل الذّريع الذي مُُني به فيلمه “صانع المطر” (1997).
لذا، تخوف كثيرون بأن يتسبب هذا المشروع الملحمي ذو المنحى البيوغرافي في سقطة جديدة تقضي نهائيا على أحلام كوبولا في العودة إلى واجهة السينما العالمية.
وقد تزايدت هذه المخاوف حين أُعلن عن برنامج هذه الدورة من مهرجان “كان”، واتّضح أن هذا الفيلم الجديد لصاحب “العرّاب” لم يُقبل في المسابقة الرسمية. الشيء الذي أثار حفيظة كوبولا، فقرّر عرضه في افتتاح تظاهرة “أسبوعي المخرجين”، التي أُطلقت قبل ربع قرن كتظاهرة موازية للمهرجان، ثم تحوّلت تدريجيا إلى “ضرّة” منافسة للتشكيلة الرسمية.
![]() |
معلقة أسبوعي المخرجين
أعتقد البعض أن استبعاد الفيلم من المسابقة الرسمية يعني أنه غير ناجح فنيا. بينما رجّح آخرون أن السبب يرجع إلى تدهور العلاقات بين كوبولا ورئيس مهرجان “كان” جيل جاكوب، الذي كشف في مذكراته التي صدرت الشهر الماضي بعضا من خلافاته مع صاحب “محادثة سرية”. ومنها حادثة طريفة وقعت في مطار “نيس”، عشية افتتاح إحدى الدورات الماضية من المهرجان، حيث كان جيل جاكوب هناك لاستقبال السينمائي البوسني الكبير أمير كوستوريتسا، فأبصرا كوبولا، الذي لم يكن مدعوا للمهرجان، وتوقف في “نيس” بالصدفة في طريقه نحو وجهة أخرى، وكان نائما على مقعد في إحدى قاعات الانتظار، فألحّ كوستوريتسا على جاكوب أن يقدّمه إلى كوبولا، الذي يعتبره مثله الأعلى في السينما. مما دفع رئيس مهرجان “كان” إلى الاقتراب من كوبولا لتحيّته. فإذا بالأخير يزجره بعنف، قائلا: “من أنت لتتجرأ على إيقاظي من قيلولتي”!
![]() |
جيل جاكوب (AFP)
في المؤتمر الصحفي الذي عقده على هامش عرض فيلمه الجديد في “أسبوعي المخرجين”، لم يعلّق كوبولا على ما تم ترويجه بخصوص خلافاته مع جيل جاكوب، واكتفى بالقول أنه رشّح الفيلم بالفعل لدخول المسابقة الرسمية، لكن إدارة المهرجان اقترحت عليه أن يتم تقديمه في عرض خاص خارج المسابقة. مما دفعه إلى سحبه، وعرضه في “أسبوعي المخرجين” كـ “نوع من التحدي”، لكي يُتاح لرواد المهرجان مقارنة عمله هذا بالأعمال التي قُبلت في المسابقة الرسمية، للحكم على مدى موضوعية قرار إدارة المهرجان بعدم قبوله.
وبالفعل، كان كوبولا محقا، فقد أجمع كل من شاهدوا الفيلم هنا بأنه يعد عمله الأكثر نضجا واكتمالا. وهو هنا لا يتحدى إدارة مهرجان “كان” فحسب، بل يكسر كل المعايير التي تتحكم بالأوساط السينمائية العالمية، وفي مقدمتها الاستوديوهات الهوليودية التي تجمعه بها عداوة متجذّرة منذ نصف قرن…
في هذا العمل الجديد يستعرض كوبولا بعض الوقائع البيوغرافية في حياة عائلته، ومنها العداوة التي اتسمت بها علاقات والده بعمّه “تيترو”، الذي يحمل الفيلم اسمه، والذي كان “عرّاب” العائلة، وهو الذي فتح أمامها فرصة الهجرة إلى أمريكا. وكان طريفا أن كوبولا، حين سُئل عن سرّ تشابه بعض أجواء عمله البيوغرافي هذا مع عوالم ثلاثيته المافياوية “العرّاب”، أجاب ضاحكا: “حين أنجزت “العرّاب”، لم احتج لمقابلة أي مجرمين أو قادة عصابات، بل استوحيت تلك الشخصيات من عمّي “تيترو” وإخوته.
كما يسلط كوبولا الضوء أيضا في هذا العمل على جوانب خفية في صلاته بوالده، الذي كان عازفا شهيرا في أوركسترا نيويورك السيمفونية، والذي ورث عنه كوبولا أناه الفنية المنتفخة، حيث لم يتقبل كارمين كوبولا فكرة دخول ابنه فرانسيس الوسط الفني، وظل يكرّر حتى وفاته بأن “العائلة لا تتسع سوى لعبقرية فنية واحدة”!
لكن الأهم في هذا العمل، ككل أفلام كوبولا، تكمن في اللغة البصرية الساحرة والرؤية الإخراجية المبهرة. ويقول كوبولا أنه استطاع أن ينجز هذا الفيلم بشكل مستقل عن أي ضغوط، لأنه موّله بالكامل من ماله الخاص (20 مليون دولار)، مما سمح له بأن يقدم فيه خلاصة رؤاه الفنية وتصوّره لما يجب أن تكون عليه السينما في عالمنا المتحول.
والمذهل أن كوبولا، كان قد جرّب مرارة الفشل، سنة 1984، بسبب إصراره على تصوير فيلمه Rusty James بالأبيض والأسود، مما جعل الجمهور يعزف عن مشاهدته. وبسبب تلك السقطة، ظل كوبولا مديونا طيلة 15 سنة، واضطر لرهن كل أملاكه. لكن ذلك لم يمنعه اليوم، وقد جاوز السبعين، من معاودة الكرة، حيث صوّر فيلمه الأخير هذا بالأبيض والأسود أيضا! وقال في هذا الخصوص، خلال مؤتمره الصحفي: “قنوات التلفزيون التجارية هي التي تضغط على شركات الإنتاج السينمائي لعدم تصوير أفلامها بالأبيض والأسود. والشركات المنتجة، بما فيها الاستوديوهات الهوليودية الكبرى ترضخ لهذه الديكتاتورية التلفزيونية. أما أنا، فلا يهمّني شباك التذاكر. ففي مثل سني، لم أعد محتاجا للمكسب المالي، فأنا سعيد تماما بحياتي وسط كرومي وأقبية نبيذي!