كريم السواكي: الوثائقي العربي يجب أن يؤرخ للصمت

الإيدز مازال عالما يقع في دائرة الصمت
جيمي ليس مريضا بل ثائرا … والعربي يعيش ازدواجية بين ما يقوله وما يفعله


حوار:كمال الرياحي

كريم السواكي مخرج تونسي شاب اختار الوثائقي طريقا ليؤسس لتجربته في عالم السينما. ومن دروب الوثائقي سلك الدرب الأصعب إنه المسكوت عنه في الثقافة العربية. فكان فيلمه المثير للجدل “الصمت” تجربة محرجة للضمير المطمئن إلى مسلماته وكشفا لعورات المجتمع التي يسعى المجتمع لسترها يائسا. هي قصة مهاجر تونسي وجد نفسه منذ 30 سنة مريضا بالإيدز في فرنسا. ثم في بداية التسعينات أبعدته السلطات الفرنسية إلى بلده تونس وهنا المفارقة الكبرى… 
الإيدز موضوع مسكوت عنه في مجتمعنا العربي فهل يمكن للوثائقي أن يجعل من المسكوت عنه منطوقا بالصورة..

كريم السواكي 
عالم المفارقة

يقال أن المجتمع الذي يراقب كل كلام هو مجتمع يعيش في صمت. وتاريخ الصمت هو أكثر شساعة من تاريخ الكلام في المجتمعات العربية. هل تعتقد أنك قد اقتحمت أمرا مسكوتا عنه في المجتمع التونسي وهل الحديث عن الإيدز اليوم في تونس مازال عالما محظورا اجتماعيا في مجتمع يرفع ألوية الحداثة والعلمانية؟
قصدت أن أترك كلمة “صمت ” غير معرفة .تركتها مهملة هكذا .صمت في المطلق. وكما تعلم الفيلم يعالج مرض فقدان المناعة المكتسبة أو ما يعرف بالإيدز. والحق أن عنوان الفيلم يأتي من طبيعة هذا الفيروس تحديدا الذي يبدأ حياته في جسم المريض في صمت ودون سابق إنذار أو إعلام. فلا يفطن المصاب بوجوده إلا بعد سنوات تصل إلى عشر سنوات أو أكثر. ومن ثم فهو يقتحم جسد الإنسان ويعيش في داخله في صمت.ويتعايش  المصاب مع هذا الزائر في صمت.والجان الثاني من دلالة العنوان وعلاقته بالفيلم,هو أن الشخصيات التي تحدّث عنهم الفيلم  و جعلهم يتحدّثون هم أناس قضّوا جزءا من حيواتهم في صمت مبهم بعد اكتشافهم إصابتهم بهذا الفيروس.كانوا يعيشون في الهامش.
وفي الحقيقة عندما تتحدّث إلى هؤلاء المهمّشين وبعد أن يطمئنون إليك. فجأة ينقلبون إلى آلات إنتاج للكلام فترى الواحد منهم مثل المذياع تماما يتكلّم بدون توقّف. وربما يرجع ذلك إلى  فترات الصمت الطويلة التي كانوا يعيشونها.

وكأنهم بكلامهم المسترسل يختبرون وجود اللسان وفعاليته بعد سنوات الكبت وواقع التبكيت الذي يعيشونه
فعلا هو ذلك تماما,والصمت في الفيلم يتعدى الشخصيات نحو وصف المجتمعات العربية التي تساهم في انتاج هذا الصمت فهي تتخذ من الصمت ملاذا وتستنجد بالتحريم لإعطاء الصمت مشروعية.وهكذا يحوّلون الأمر نحو الدين وهو منها براء.فالدين الإسلامي يحث على الحديث.ولم يكن الدين يوما ما حاجزا ومانعا.

نعم وان كنت اختلف معك في هذه النقطة فالثقافة العربية قائمة في جهة منها على الصمت. يكفي أن أذكر بالامثلة العربية التي مدحت الصمت في مقابل الكلام على غرار “إذ كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب” والأمثلة الشعبية والعبارات المتداولة “استر ما ستر ربي”… فالعربي الكثير من العورات يريد أن يخفيها. ما يعنينا الآن هو سؤالك عن المفارقة الكبيرة التي طرحها  فيلمك في المجتمع التونسي الذي يرفع شعار الحداثة والتفتّح وفي نفس الوقت تكشف أن هذا المجتمع الحداثى والتقدّمي بارثه البورقيبي التحرري والعلماني مازال مجتمعا محافظا ويلوذ بمقولات الحرام والحلال.أليس غريبا هذا؟
 فعلا هذا ما اكتشفته وما صدمت به أثناء انجازي للفيلم فهذا المجتمع المتفتّح.ما عن تغوص في عمقه حتى يرتد بك إلى صورة موغلة في المحافظة والتخلّف أحيانا.هناك فرق كبير بين ما يقال وما ننظر له وما هو معاش وما هو منجز من علاقات ومعاملات في الشارع التونسي والعربي أيضا .فأنت وأنت تتحدّث إلى شاب مثقّف يحدّثك عن الإيدز بوعي شديد وفكر مستنير لأنها لا تعنيه مباشرة ولكن ما إن تدخل معه في حديث عن العذرية مثلا حتى ينقلب إلى كائن شرقي  من غياهب الجاهلية لا يعرف إلا الحرام والعيب.هناك هروب إذن نحو الصمت للتعبير عن أمور وقضايا لا نقبلها بسهولة.

العربي يعيش ازدواجية بين ما يقوله وما يفعله

 
ما الذي شدك في شخصية جيمي تحديدا. هل هو المرض نفسه أم مقاومته للمرض؟ أم نضاله من أجل الاعتراف بهذا المرض كواقع وبالمرضى كجزء من تركيبة هذا المجتمع لا بد أن نتقبّله ونتعايش معه؟
– أصدقك القول. مازالت مبهورا بشخصية جيمي إلى الآن حتى بعد أن انتهيت من انجاز الفيلم. وجيمي كما تعلم هو مواطن تونسي هاجر مبكرا إلى فرنسا وهناك تعرف على إمرأة وتزوج بها. لكنه في لحظة قرر أن يعيش تجربة الليل.

 سمعت أنه كان يتعاطى المخدّرات ؟
فعلا فقد أصبح مدمن مخدّرات وكحول ويتعاطى المخدرات عن طريق الإبر… وأصبح من أبرز الناشطين في هذا العالم الموبوء.واكتشف يوما انه مصاب بالفيروس ولم يتفاجأ أنذاك لأنه كان على وعي بأنه قد يصاب في أية لحظة بهذا المرض نتيجة تعاطيه للحقن المخدّرة. وهذا تقريبا سنة 1982 وأثناء ترحيله إلى تونس في بداية التسعينات كانت الصدمة مع هذا المجتمع الذي كان حديث عهد بهذا المرض. لكن جيمي الذي عاش شبابه كلّه في فرنسا ورأى كيف كان الفرنسيون يتعايشون مع هذا المرض أصيب بصدمة من هذا الرفض الذي استقبل به في بلده.فلا يمكنه الجهر بمصابه والحديث عن حالته.وعندما تدهورت حالته واضطر إلى النزول بالمستشفى ثار على الوضع وتحدّث عن حالته إلى عائلته وجيرانه ووصل به الأمر إلى الظهور في التلفزيون مكشوف الوجه وتحدث عن إصابته دون حرج أو خوف.وكان سلوكه هذا صدمة لا للمجتمع فقط بل صدمة للمرضى الآخرين.ومن هنا تحوّل إلى مناضل ومدافع ضد الميز الذي يتعرّض له المصابين بمرض فقدان المناعة المكتسبة وهو إلى الآن مازال يقوم بهذا الدور التوعوي و”التثقيفي” في كل مكان .رغم تعرّضه إلى شتى أنواع المضايقات من عنف وغيره وصلت حد التهديد بالقتل.فقد كان يوزّع الواقي الذكري في وقت من الأوقات في الحانات والعلب الليلية واعتبر البعض سلوكه من قبيل التشجيع على ارتكاب الفواحش… والحق أنه كان يقوم بذلك بوعي كبير لأنه كان يعرف عواقب ذلك.لقد كان جيمي ذلك الثوري الذي ثار على العقلية الرجعية والتقليدية.وصل الأمر إلى أن الكثير أصبحوا يتعايشون معه بشكل عادي جدا  بعد أن استطاع اقناعهم بطبيعة هذا المرض وأزاح عنهم الكثير من الجهل والخرافات التي تروّج حوله فهو وإن كان مرضا منقولا فإنه ليس  بتلك الخطورة التي تجعله ينتقل عبر الكلام مع المصاب أو الجلوس معه…وهذا الأمر كان بالفعل موجود في تونس في بداية التسعينات حيث كان الناس يقاطعون المصاب.وفي بعض الدول العربية كان المصاب يسجن حتى لا تنتشر العدوى.

كما كان يسجن المصاب بالجذام أو الطاعون في العصور الغابرة.
نعم.الآن جيمي نجم معروف ولا أحد في حلق الوادي لا يعرفه صغيرا كان أم كبيرا نساء ورجال وهو شخصية محبوبة جدا وله أصدقاء من العالم يزورونه وبعض المتعايشين مع الفيروس أو المصابين بالإيدز في تونس والذين يعانون من بعض المشاكل يستعينون به لتوعيتهم أو مساعدتهم على السبل الكفيلة للخروج من تلك المشاكل وخاصة منها النفسية.
هذه الشخصية الغريبة والثورية هي التي شدتني بخصوصيته ومثابرتها على تغيير الفكر الخرافي والتقليدي الذي حول هذا المرض إلى كابوس ولعنة وأمكن له أن يعيده إلى وضعه الطبيعي بصفته مرضا ككل الأمراض يمكن أن نتعايش معها.وكما سبق وان قلت في بداية الحوار هناك مفارقة كبيرة بين التنظير والممارسة وبين القانون وما يدلي به المشرّع التونسي وما يمارس في الواقع.فعندما تقترب أكثر فأكثر في شخصية التونسي ستكتشف انه لم ينزع يوما جبّته.
هذا المجهود الكبير من جيمي في التحوّل من موقع الضحية أو المريض والمصاب إلى دور الناشط والمصلح ورجل التنوير والتوعية هو الذي جعلني أفكّر في توثيق هذه التجربة وهذه الشخصية في فيلم وثائقي يبيّن أكثر مجهود هذا الرجل المقاوم.حتى تبقى خالدة للأجيال القادمة.

اذن جيمي رحب منذ البداية باقتراحك مادام منسجما مع مشروعه التوعوي؟
فعلا… لقد فكرت في يوم ما أن أنجز فيلما عن الإيدز في تونس بعدما قرأت الكثير عن هذا المرض الخطير في افريقيا بشكل عام.ولابد أن ننزّل تونس أيضا في اطارها الجغرافي فنحن جزء من هذه القارّة التي تعاني من  مشاكل كثيرة منها استفحال هذا المرض ولا أدري لماذا التونسي يتنصّل في أوقات كثيرة من هذا الانتماء حتى أن أحد المعلّقين الرياضيين في كرة القدم لا يتردد في القول بأن فريقنا الوطني سيتبارى مع فريق افريقي … وكأننا نحن من قارة أخرى.

       جيمي لم يفكّر يوما ما في النجومية واشترك في الفيلم بدافع المسؤولية

جيمي في أحد شوار العاصمة تونس

 

طيب.نعود إلى سؤالنا ونوضّح بأكثر دقة هل استجابة جيمي لدعوتك دافعها شخصية جيمي النضالية أم كان يحلم بالنجومية التي بدأ يكتسبها من ظهوره المتكرر في الفضائيات التونسية ؟
– لا أبدا جيمي مواطن بسيط لا يسعى إلى نجومية وهو عاطل عن العمل وإنما هو يمارس نشاطه  هذا بدافع شخصي يصل  الحماس به أحيانا حتى يبدو  كما لو كان واجبا وطنيا.وهو كذلك لأنه بعمله التوعوي هذا ينقذ المئات من السقوط في فخ هذا الداء.وعندما التقيت به أول مرة في منزله واقترحت عليه فكرة الفيلم رحّب كثيرا وسرعان ما وفّر لي ملّفا وثائقيا مهمّا حول المرض والحالات التونسية وقال أن هذا ما كان يتمناه  حتى يصل صوته إلى أكبر شريحة ممكنة والفيلم الوثائقي يوفر هذا الامتداد لهذه التجربة النضالية.

كيف شاهد جيمي الفيلم أثناء عرضه؟
 آه أنت تعيدني إلى صورة جيمي وهو يشاهد العرض في أيام قرطاج السينمائية .كان متأثرا جدا حتى أنه لم يستطع التحكّم في دموعه فأجهش بالبكاء في قاعة العرض.خاصة عندما كان الجمهور يصفّق ويهتف بحياته.

 نحن في فيلمك أمام تعانق غريب بين سينما البيوغرافيا والتيمة معا. فالإيدز الموضوع وجيمي أيضا هو الموضوع.بعبارة أخرى هل كان يمكن انجاز هذا الفيلم عن الإيدز  في غياب جيمي والحال أننا مازلنا نعيش واقع الصمت بخصوص هذا المرض؟
 كلامك دقيق تماما.فجيمي كان له الفضل الكبير في نجاح الفيلم لأنه الرّجل صاحب مشروع وشاءت الصدفة أن يتقاطع مشروعي بمشروعه فكان هذا الفيلم الذي يحمل هما واحدا. وأنا بالفعل حاولت أن أسجّل مع بعض المصابين أو ما أُطلق عليه شخصيا بالمتعايشين مع الإيدز لكني فشلت فكلهم رفضوا رفضا قاطعا الظهور على الشاشة خوفا من رد فعل المجتمع بعد ذلك .
وكنت أتفهّم في أحايين كثيرة ردة فعل هؤلاء المرضى فأذكر أنني التقيت بعائلة كاملة مصابة بهذا الفيروس وهي متمثلة في الأب والأم والإبنة  وقد تأثرت كثيرا وهم يسردون لي معاناتهم وأسبابهم التي تحول دون ظهورهم بوجوههم في الفيلم.فالمجتمع غير مؤهّل لتقبّل اعترافاتهم.
تعاطفت معهم رغم أن غاية الفيلم واسترتيجيته قائمة أساسا على الكشف عن هذا المرض وأنسنته حتى نتعايش معه فمادام المريض يخفي وجهه فلن يكون هناك حل لهذا المأزق. كان علينا ان ننزع الأقنعة .لذلك كنت أشترط على المرضى في اقتراحي التسجيل معهم الظهور بوجوههم لا من وراء الستار كما تعوّدنا هذا كان العائق الكبير الذي واجهني

قدّور ومقاومة الإيدز بالسّخرية

فيلم صمت

وقدّور كيف وجدته؟ يبدو حالة مختلفة تماما؟
المتعايش الوحيد  الذي قبل الظهور بخلاف جيمي هو قدّور.اكتشفت في شخصية قدّور شكلا آخر من أشكال مقاومة هذا المرض.لقد كان يقاومه بالسخرية والضحك.كان قدّور يطلق النكت وهو يروي حكايته مع الإيدز حتى أن الجمهور في قمّة  مشاهدة هذه المأساة التي يرويها الفيلم كان يضحك أحيانا من السخرية اللاّذعة التي يتمتّع بها قدّور وقوّة شخصيته المثيرة في مقاومة مرضه.
لقد غيّر من الصورة النمطية لمريض الإيدز أو أصحاب الأمراض الخطرة في مخيلتنا.فنحن ننتظر من هؤلاء أن يكونوا مكتئبين ويتحدّثون بألم وحزن شديدين.قدّور كان يقاوم المرض بالابتسامة والسخرية.وهذا ما دفع الفيلم إلى منطقة أخرى من العمق والطرافة كانت سببا من أسباب نجاحاته.

إذن هؤلاء فقط من قبلوا الظهور في الفيلم مؤكدين عنوان الفيلم أن الأمر مازال مسكوتا عنه؟
فعلا. وجيمي على فكرة عنده ما يقارب عن 30 سنة مصاب بالفيروس وقدّر تقريبا 16 سنة ويظهر لأول مرّة على الشاشة دون أقنعة وقد وضع شرطا لي أن يكون ظهوره في قاعات السينما فقط أي أن لا يظهر في التلفزيون والتونسي تحديدا لأنه مازال يرتاب من ردّة فعل التونسي من أبناء حيّه خاصة بعد تعرّضه لمضايقات أثناء ظهوره بشكل آخر في إحدى القنوات التلفزيونية التونسية.

 وإن كان شرطه هذا سيكون عرقلا أمام حياة الفيلم الوثائقي أصلا الذي لا يمكن أن يعيش كل الوقت في قاعات السينما وإن كان قد استثنى القنوات الأخرى غير التونسية.لكن الفيلم في النهاية موجّه بالأساس إلى هذا الفضاء التونسي.
 نعم وإن كان التونسي يمكنه أن يتابع الفيلم في أي قناة فضائية بعد أن ينتهي عرضه في دور السينما.

هناك لكثير من المحظورات في المجتمع التونسي لم تقتحمها بعد السينما التونسية بشقيها الوثائقي والروائي مثل اللقطاء وأطفال الشوارع والمخدّرات والفساد والرشوة والأمهات العازبات ….هل السينمائي الشاب اليوم  له من الجرأة ما يخوّل له  خوض غمار هذه التجارب والمغامرة بدخولها وكشفها؟
صحيح هناك العديد من الأمور مازالت محظورة ولم تطرقها السينما التونسية على جرأتها.ومما لا شك فيه أنه أصبحت في تونس رئة ثانية للسينما  هي سينما الشباب وهو الشباب المتخرج من معاهد السينما  ومتمكّن من التكنولوجيات الحديثة فمكّنتهم السينما الرقمية مثلا من اقتحام هذا العالم وتنفيذ تجارب جديدة . وهذه ظاهرة عالمية اليوم.و يبدو لي أن هذا الجيل له رؤية تكاد تكون مخالفة تماما لرؤية الجيل السابق وتعبيراته وأفكاره وقناعاته .

هل يعني هذا أنكم تأتون ردّة فعل على ذلك الجيل التأسيسي المتّهم من قبل بعض الأوساط أنه جيل فرونكوفوني استورد رؤيته من الثقافة الفرنسية؟
لا.. أبدا ليست هذه رؤيتنا إلى المسألة السينمائية إنما نحن جيل أتينا إلى السينما برؤيتنا الخاصة من خلال معايشتنا للراهن التونسي ويمكنني أن أقول أننا جيل أكثر قرب من هموم المواطن من غيرنا .فأصبحنا نتحدث عن “الحرقان” أو قوارب الموت والسلطة البوليسية.

وعن الأقليات اليهودية والتنوّع الاثني.هل تعرّضت إلى صعوبات في انجاز هذا الفيلم من المؤسسة التونسية؟
قناة فرنسا 24 كانت تصطاد في المياه العكرة وتسببت لنا في احراج…  نعم , تعرّضت إلى  بعض الصعوبات فليس من السهل الحديث عن الإيدز في تونس .ما هو مسموح به لا يستجيب لطموحاتي مع الفيلم.كما وقع استدعاء المنتج إلى إحدى مكاتب وزارة الثقافة  لمناقشة  بعض الأمور التي بدت مربكة بالنسبة إليهم وخاصة ما تعلّق بلغة الشخصيات ولهجتهم.

 كيف ذلك لو توضّح لنا هذه النقطة؟
في الحقيقة كانت الشخصيات التي شاركت في الفيلم تتحدث بتلقائية وعفوية كبيرة وهذا كان مقصودا في الفيلم وهو فيلم وثائقي في النهاية وتعمّدت عدم حذف شيء في المونتاج لأن تلك اللغة لغتي وأنا  أنتمي إلى هذه اللغة.وفي لحظة من الفيلم  يقول جيمي دون قصد عبارة”لعن دين أمك يا تونس”وقالها بحب ولم يكن يقصد بها موقفا مناهضا أو شيء من هذا القبيل لكن إحدى القنوات الفرنسية   “France24 “التي أجرت معي حوارا حول الفيلم فلم يختاروا من اللقطات التي وفّرناها لهم إلا  هذه الجملة العفوية وبالغوا في تكرارها  بسوء نيّة  مما أثار حفيظة وزارة الثقافة وأزعجني أنا شخصيا وكان هذا السجال وضرورة حذف هذه الجملة من الفيلم. وفي النهاية الرقابة موجودة في كل مكان.

 لم تتلق دعما من وزارة الثقافة لم أسمعك تشتكي على خلاف بعض السينمائيين التونسيين؟
لا.. ولم أطلبه.تحملت شركة ” Exit Productions ” كل تكاليف الانتاج بعد أن عرضت عليهم مشروعي وآمنوا به وبرسالته. وكنت  قبل ذلك على قناعة بضرورة التعويل على نفسي وتأكيد جدارتي كمخرج أوّلا بمجهودي الشخصي ثم تأتي  مرحلة  طلب الدعم ثانية وأكون وقتها كما زملائي أيضا من جيلي قد أثبتنا بالفعل استحقاقنا لهذا الدعم من خلال نجاحات هذا الفيلم  وغيره من الأفلام التي شاركت في مهرجانات كثيرة في العالم ولاقت الكثير من الاستحسان وتحصلت على عدد من الجوائز.العمل الأوّل  بمجهودنا ثم المطالبة بالدعم.

 كيف تقبّل الجمهور التونسي هذا الفيلم؟
كنت دائما حريصا على الحضور مع الجمهور وفي الغالب واعتقد من خلال متابعتي لوقائع العروض أنه  وقع تقبل هذا الفيلم بشكل جيد  في فكرته  وإن كان هناك شق آخر من الجمهور بدا متحفّظا.ويبدو لي من خلال ما شاهدته أن شخصية التونسي تقبل الآخر وتهضمه وهي شخصية متسامحة وتتفاعل مع الآخر المختلف.

أنت من السينمائيين القلائل الذين يراهنون على الفيلم الوثائقي وتفكر في الاختصاص؟ وليس على هامش تجاربهم السينمائية 
هي قناعات شخصية.الفليم الوثائقي مستقل بذاته مثل الإشهار والفيلم الروائي …..كنت شغوف بالفليم الوثائقي منذ بداياتي وهذا نابع من ثقتي بأن الفيلم الوثائقي اليوم يلقى الكثير من التقدير في العالم و الفيلم الوثائقي أيضا يجعلني في اكتشاف مستمر لوطني ولتاريخه قبل كل شيء.يهمني دائما البحث في الشخصية التونسية وهمومها وأحلامها والفيلم الوثائقي يوفّر لي هذا الفضاء وهذه الفرصة لأكون وجها لوجه مع التونسي وهو حسب رأيي أقرب من الفيلم الروائي من هذه الأفكار وأخطط لمسيرة سينمائية وثائقية وإن قمت يوما ما بفيلم روائي فأحسب أنه هو من سيكون على هامش تجربتي في السينما الوثائقية.
انجاز فيلم وثائقي  هو مغامرة انتاجية ويتطلب الكثير من الثقافة والبحث فليس من السهل انجاز فيلم وثائقي عن شخصية تاريخية سياسية أو ثقافية أو موضوع شديد الخصوصية والدقّة.ويكفي أننا عندما نبحث عن فيلم  وثائقي جيد عن بورقيبة لا نجد إلا ما أنجزته احدى القنوات العربية.
– نعم وشخصيا عرفت قيمة الفيلم الوثائقي وما يتطلبه من جهد فقد كان موضوع الإيدز مجهولا بالنسبة إلي واستلزم مني ذلك بحثا طويلا في المستشفيات والاتصال بالأطباء والناشطين في المجتمع المدني.على المخرج الوثائقي أن يكون صاحب ثقافة كبيرة وموسوعية  ومنقّبا وباحثا .إلى جانب تمكّنه من اللعبة السينمائية أيضا  التي بها  سيدير تلك المعلومات والعارف حتى لا يدخل في متاهات قد تجني على عمله وتسقطه في الفشل الكبير.

هل يفكّر كريم السواكي في تجربة سينمائية جديدة؟
أفكّر في مشاريع كثيرة لكني مازلت أعيش في فيلم “صمت” وأحتاج الكثير من الوقت للبحث عن فكرة جديدة تكون جديرة بأن تكون مادة لتجربتي السينمائية القادمة.ربما خلا سنة او سنتين أنجز عملي القادم الذي سيحتاج مني بكل تأكيد بحثا مطوّلا حتى نتمكّن من كل تفاصيله ونجهّز له الأرضية المطلوبة لكي ننتظر نجاحه.


إعلان