سينما بدرخان هموم وطن وحكايا بشر
لا أحد يستطيع أن يستعرض شيئا من روائع السينما العربية دون أن يتوقف أمام إسم الراحل المخرج الأب أحمد بدرخان أو المخرج الإبن على بدرخان أطال الله فى عمره ، كنت على موعد معه فى فيلته القديمة بشارع إستديو الأهرام بمنطقة الهرم التى خصص جزءا منها كمكتبة ومكان مفتوح لعقد الندوات وحلقات النقاش ، وأنا فى إنتظاره بحجرة الصالون العتيق دارت عينايا حول المكان ، تتأمل بقايا وذكريات وقطعا محدودة من الأثاث العتيق الراقى ، إختنقت أجواؤه بفعل البنايات القبيحة ومناشر الغسيل المدلاه من شرفاتها مع أصوات الباعة الجائلين تحيط بالفيلا الصامدة حتى الآن رغم هذا السياج المتوحش الذى يحيط بها ! إلتقيته مضيافا ومرحبا بأدبه الجم وتلقائيته الواضحة من الوهلة الأولى ،إحساس عميق بأنك تعرفه جيدا منذ زمن طويل ، شاب فى الرابعة والستين ! لم يبارحه الحماس والعناد والأمل فى تحقيق الأفضل لوطنه المهموم به والمشغول بوجعه حتى النخاع ، أرستقراطى النشأه ،كردى الأصل ، عاشق مصرى من الدرجة الأولى ، لفظ ملعقته الذهب من فمه ليبتلع هموم الوطن فقرائه ومبدعيه ، أمجاده وإنكساراته ..
فى حضرته أنت مع خليطٍ متفردٍ من بدرخان الأب فى عشقه واحترامه لفنه وإتقانه لتفاصيل حرفته ومع يوسف شاهين فى إلتزامه بقضايا وطنه وإستنفاره وتحريضه لعقل المشاهد للتأمل والتساؤل ومع صلاح أبو سيف فى دقته المتناهية وعيون كامرته التى تحتضن وتغوص فى الواقع المصرى ، تدخل أزقته وحواريه تلمس ترابه وطين أرضه وتستظل بنخله وأشجاره ،مازالت عيناه إلى الآن تتغورقان بالدمع وهو يتذكر جرح الوطن الكبير حين أصابته الهزيمة وطعنت أحلامه فى زمن الصمود ،< حبه الذى كان> وضميره الذى حاول “أهل القمة ” أن يسرقوه ! ….
![]() |
زواج بدر خان من سعاد حسني
أستاذ على بدرخان كانت الفرص أمامك متاحة لكى يكون إنتاجك غزيرا ومع ذلك فقد أخرجت عددا قليلا من الأفلام
إذا كان الفنان يعتبر أن الفن رسالة ما ينفعش يشتغل أى حاجة صعب ، صحيح كانت الفرص متاحة أمامى لأخرج كتير لكن المهم أخرج أيه وأقول أيه ولمين واللا أتكلم من باب إهدار الوقت وخلاص، يعنى لا أستطيع أن تكون هناك مجازر فى فلسطين وأنا أنشغل بعمل عن الحب والغرام مثلا أو فيلم للتسلية ، الإنسان يجب أن يكون متسقا مع نفسه أزاى أكون راكب مع سواق تاكسى يحكى لى عن مشاكله وآلامه وأنا أقول وانا مالى ! الفنان ما ينفعش يكون وانا مالى!
ربما شغلك دورك كمعلم للأجيال الجديدة من طلبة معهد السينما وهو دور أعرف أنك حريص جدا على أدائه مهما كانت مشاغلك
لا لم يشغلنى لكن أنا أحترم الصنعة وأدرس للطلبة فى المعهد الحرفية عشان يقدر يعبر عن نفسه كويس ، ما ينفعش حد يجيلك عشان يركب حنفية وبعد يومين تخر ! يبقى مش حرفى ومش أسطى والفلوس اللى أخدها حرام فما بالك بالفن ده لما حد بيتقن عمله أيا كان هذا العمل بنقول عليه فلان ده فنان بمعنى انه حرفى يتقن تفاصيل عمله جيدا
ولكن هناك مخرجين لديهم الصنعة ومع ذلك يقدمون موضوعات لا قيمة لها أو تافهة..؟؟
أغلب المهرجانات عندنا تتحدث عن الموضوع ويتجاهلون الحرفية طبعا الموضوع مهم لكن الفن الذى أقدمه فن تفسيرى أنا لست خلاقا الكاتب والروائى هو الخلاق أنا أفسر ،عندما أتناول عملا لنجيب محفوظ مثلا أحاول تحليله أبحث عن المعانى ، حرفيتى فى قدرتى على نقل الصورة الحقيقية وليس مجرد سيرة ذاتية فأنا أتناقش مع المؤلف لأتبين فكرة معينة كان يقصدها ولم تصل لى أو العكس فكرة وصلتنى بطريقة ربما مختلفة نسبيا عما أراده الكاتب وهكذا
فى الراعى والنساء ربما لأول مرة يتم إخراج نفس الموضوع فى توقيتين متزامنين لمخرجين مختلفين..
لا الراعى والنساء كان شيئا آخر كان موقفا شخصيا ما ينفعش أكون أنا اللى إخترت الموضوع ويحصل إختلاف فى وجهات النظر فيعطيها المنتج لمخرج تانى ! ده مش سلوك فنانين لذلك تقدمت بشكوى فى حينها لنقابة الممثلين ومع الأسف رأت النقابة وقتها إن ده شيئ عادى ! ولكن بعد عرض الفيلمين وقف المنتج حسين القلا وانا أحترمه جدا وقف أمام الجمهور وإعترف بسلامة رؤيتى وبأنه أخطأ فى التقدير وأعتقد أن الفيلمين بينوا بوضوح الفرق بين الرؤيتين.
![]() |
مشهد من فيلم الراعي والنساء
لو أتيح لك أن تعيد إخراج فيلم من أفلامك كيف ستقدم فيلم الكرنك..
لا أحب أن أعيد إخراج أى فيلم من أفلامى لأنى حينما أتعرض لموضوع ما أتعرض فى فترة زمنية معينة مع ناس معينين وأرى أن هذا العمل يقدم فى هذا التوقيت بالذات ووجهة النظر ستبقى والقيمة الفنية ستبقى أيضا..
ولكن الفنان والمثقف بشكل عام يمكن أن يغير وجهة نظره وبالتالى يمكن أن يعالج الموضوع برؤيته الجديدة ، مثلا فى فيلم الكرنك أدخله البعض ضمن موجة الإساءة المتعمدة التى تبنتها وسائل الإعلام الرسمية لتشويه سيرة ومسيرة عبد الناصر لصالح نظام السادات
يمكن أن يكون الفيلم قد أستغل لأن الفيلم أخرج فى بداية حكم السادات قبل موجة التشويه لكن كان فيه نكسة وأنا أتذكر نفسى راكب السيارة وكان فيها ست بنادق نصف آلى وصندوق ذخيرة مدهون أزرق للمجهود الحربى وكنت أقوم بتدريب طلبة فى معهد التربية الرياضية على المقاومة الشعبية متطوعا ، وسمعت فى الراديو إننا إتهزمنا وقالوا نكسة أزاى !وقفت السيارة وذهلت وقلت لنفسى أزاى أكيد فى حاجة غلط عشان كدة عملت الكرنك ولم أعمل فى حياتى لصالح أحد وأنا أرفض أن أعمل لصالح شخص أو نظام حتى لو كنت مؤيد له
ولكن البعض رأى أن النظام إستفاد من فيلمك…
هذا البعض حدود تفكيره التفاهة وبيفكر على طريقة الإعلام المباشر الساذجة الإعلام الآن مفتوح وأستطيع أن أحصل على المعلومة فى ثانية ومن أى مكان فى العالم حتى الآن حكوماتنا غير قادرة على إستيعابه ، مازالوا يبحثون عن وسيلة ليحكموا الإنترنت لأن السادة المسؤلين تفكيرهم أمنى لا يستمعون للنصح !
مع التسليم بالمشاكل العديدة التى يعانى منها الإنتاج السينمائى والواقع المأزوم إلا أننا نجد شبابا سينمائيا واعدا وأكثر جرأة فى التعبير عن الواقع..؟؟
ليست جرأة هى إدعاء الجرأة !عشان لازم أكون فاهم لأنى مش بأعمل فرقعة لأ أنا بأعمل تنبيه بأقول يا ناس فكروا لكن لما أدعى أنى بأعمل حاجة مهمة وتبقى محشورة فى متطلبات الفيلم التجارى ، كلمتين فى السياسة يتقالوا شفاهة مع إستخدام الجنس بفجاجة
أنت أول من قدم مشهد إغتصاب فى السينما فى فيلم الكرنك
صحيح لكن كان موظفا توظيفا صحيحا ولم يحوى عرى ، مثلا البعض أخرج أفلام عن العشوائيات الناس دى ما يعرفوش العشوائيات نعم هناك فساد أخلاقى وفقر أدى بهم إلى الإنحراف لكن عندهم قيم وأخلاقيات وعقيدة وفسادهم لا يقارن بفساد من يعتبرون كريمة المجتمع زى أعضاء البرلمان مثلا !وأن أرى أن ما يسمى بالإرهاب يخرج من هذه البؤر فقط يصبح تفكيرا ساذجا ورشوة للحكومة لكى تسمح بعرض الفيلم ! فلو كانت الدولة معنية بالإرهاب صحيح كانت واجهته برفع مستوى المعيشة ورفع الظلم كانت واجهته بالحوار مش بالبندقية
![]() |
لكن بشكل عام أستاذ بدرخان هناك حرص ورغبة فى محاكاة الواقع
لكن أنا أختلف معك لأن الواقع بتاعنا مش شرم الشيخ ، فى حالة إستسهال ، أنقل فيلم أجنبى وأصور فى أماكن فخمة زى شرم الشيخ مع أن شارم أقرب للواقع الغربى وليس المصرى ، والدولة قررت أن لا تنتج لأن الإنتاج ما بيكسبش ! على أساس أنها معتقدة إن دورها إنتاجى وفقط وليس ثقافى ، تربوى، توجيهى، الدولة لا تنتج لكى تكسب الدولة تنتج لكى تؤدى رسالة وهذا هو دورها الأساسى..
بمناسبة الإنتاج ودور الدولة حتى الأن لا نستطيع أن نذكر عملا مهما يؤرخ لحرب أكتوبر ويجسد أبطالها الحقيقيين
“أنا كنت عايز أعمل عمل يبين الأبطال الحقيقيين فعلا فى حرب 73 أصورالبشر ، الفران اللى كان هناك قاعد بيحارب ، النجار اللى شايل سلاح على الجبهة شفتهم لما طلعت على الجبهة تبع الشئون المعنوية فى الجيش أثناء الثغرة ،رحت إتطوع فقالولى ما ينفعش لأنى وحيد بس زملائى كلهم كانوا فى الجيش كنت عايز أعمل فيلم عن المواطن المصرى فى الأزمة ، فى المحك الحقيقى ، إزاى بيتحول لبطل إزاى مابيفكرش فى حاجة إلا فى بلده وشرفه ،أذكر حالة كان نفسى أجسدها سينمائيا ، واحد بلطجى دايما يعمل مشاكل ويضعوه فى الحبس ويخرج تانى وهكذا غير قادر على الإنضباط”.
قامت الحرب وأفرجوا عنه أظهر بطولة خارقة ! اللى كان رافض الجيش وعايز يزوغ من الجيش و قضى جيشه كله فى السجن ! جاب دبابة بالطقم بتاعها أسرهم بإيده ، جابها ودخل بيها المعسكر ، ده كان أهوجى طيب عمل كدة ليه ؟ عّرض نفسه لكل ده ليه ؟ فى تركيبة جوة المصريين دول ما تقدريش تفهميها بسهولة ، تضاعف الإحساس بالشجن وعلينا أن ننهى الحديث !!