أصغر الأشياء توصل إلى أكبرها
استمعوا إلى نيكولا فليبير…
دمشق – يامن محمد
– ما رأيك في المسرحية؟
– أعجبتني، خصوصاً المشهد الثالث
– لماذا؟
– لأنه غير منطقي، وهذا يريحني..
ورد هذا الحوار في فيلم “أصغر الأشياء” بين المخرج نيكولا فليبير، وأحد مرضى عيادة “لا بورد” النفسية وهو موقع تصوير الفيلم. فكم منا يستطيع الإفصاح بهذه الطريقة المبينة عن انطباعه تجاه عمل فني؟! مصيباً في الوقت ذاته أحدَ أهم عناصر ومحاور العمل الفني على وجه الإطلاق، وشيئاً آخر في ذات كل واحد منا، غالباً لا نستطيع إدراك كنهه.
![]() |
نيكولا فليبير
الألــم
يبدأ الفيلم بأغنية عن الألم تؤديها إحدى نزيلات العيادة، ولقطات لنزلاء آخرين يمشون في حديقتها، يبدون في غاية الانكسار والهشاشة، ألمٌ ينسحب في تمظهره على بقية أجزاء الفيلم وبقية النزلاء، دون أن يذكر صراحة بشكل مباشر، لكنك وكمتابع لا تستطيع إلا أن تبذل قصارى جهدك في دفعه عن التسلل إليك عنوةً، وعند نجاحك في دفعه من ناحية يكون قد تسرب إليك من ناحية أخرى، موجعاً ومذكراً، لتصل ربما في النهاية إلى نتيجة جديدة وتعريف مختلف “للجنون” فيصبح مهرباً وملاذاً أخيراً للكائن الإنساني ومخبأً ينجيه من حر الألم الكائن في وجوده بحد ذاته.
مرضى ومسرح
وجد نيكولا فليبير المدخل لمقاربة هذا العالم، عالم العيادة النفسية ونزلائها، من خلال نشاط سنوي اعتادت عيادة لا بورد القيام به، وهو عرض مسرحي ممثلوه وطاقم العمل فيه “المرضى” أنفسهم، فيبدأ فليبير جدله السينمائي بين المكان من جهة والشخصيات التي قرر مشاركتها في إبداع هذا الفيلم من جهة أخرى، لقد اكتسب هذا المكان المعزول بأشجاره الضخمة واخضرار أرضه ميزة فريدة بمجاورته لهذا الموضوع الشائك الذي قرر المخرج الخوض فيه متوجساً وحذراً من مغبة التورط في المقاربات النمطية لعالم “المرضى العقليين” : أغصان تلتمع أوراقها وتتلألأ متحركة تحت أشعة الشمس، هدوء وصمت إلا ما يقوله الكون، والألم الخفي لأصحاب المكان. وخشبة المسرح تبنى وسط الغابة بستائر بيضاء شفافة لا تستر شيئاً في الواقع، تأخذ أبعاداً جعلت المكان والتفاصيل تقول ما لا يمكن لطريقة نمطية أن تقوله، فالقول هنا ليس عقلياً، بل هوَ فوق ذلك حسيٌّ بامتياز، مقارباً موضوع الفيلم في طريقة الطرح بسلاسة ليست غريبة عن طبيعة الأشخاص المتواجدين أصلاً، نحن أمام لقطات هادئة تأخذ التفاصيل بإيقاع هذه التفاصيل، مستسلمة لها، تبني هذه اللقطات الصورة العامة للفيلم بالتقدم مع بناء طاقم المسرحية لعملهم على الخشبة، مع بناء آخر ليس بالخفي وهو الذي يقوم به أطباء وخبراء العيادة النفسية ذاتها، ولكن للمفارقة؛ تضيع الشخصيات في الكثير من المشاهد، فلا تعود تدري من هو المريض ومن هو السليم، بل وفوق ذلك تكاد تشعر للحظات أنك واحد منهم، وأنك متواجد في مكان خفي في ذلك المكان الذي تراه أمامك على الشاشة، وإن لم يكن كذلك فإنك تتمنى في لحظات أن تكون في ذلك المكان.
– أنتم السبب فيما وصلتُ إليه.. يطلق صاحب المقولة المذكورة بدايةً صرخته تلك إلى الكاميرا مشيراً إلينا بسبابته ويتابع..
– المجتمع هو من أوصلني إلى تلك الحالة ولكن المجتمع أيضاً من عاد واحتواني من جديد هنا..
ربما هذه هي التصريحات الوحيدة في أصغر الأشياء التي تدين، أو تحاول تحليل الوضع القائم لنزلاء العيادة بشكل عقلي مباشر، لكنها تصدر بالرغم من ذلك عن أحد المرضى العقليين، من يوقفهم مرضهم العقلي قبل حدود إكمال ما ينوون فعله، فلم يغفل المخرج رصد عجزهم؛ من جهة لم يتورط أو ينجرّ إلى السعي نحو توليد شعور الشفقة تجاه هؤلاء الأشخاص، ومن جهة أخرى لم ينح نحو بعض المخرجين في إظهارهم على أنهم خارقين بإعاقتهم. وهذه النتيجة يفرزها بالضرورة الرصد الموضوعي، المتسم بعقلية الباحث.
هناك مشهد لمريض يدربه موسيقي على عزف إيقاع لموسيقى المسرحية، ورغم إتقانه لذلك بأكثر مما يستطيعه الكثير من الأسوياء؛ إلا أنه يشرد عند بداية الموسيقى أثناء البروفة ويتأخر عن العازفين. مشهد آخر لرسامتهم وهي تبذل جهوداً كبيرة لرسم بروشور المسرحية، لكنها بعد إنجازها للعمل يظهر أنها تفقد التركيز وتضع قدح الشاي على الرسم فتتبلل الورقة، ولكن يبقى أبلغ المشاهد ذلك الذي يرينا المحاولة الصعبة لأحد المرضى وهو يجرب عبثاً المشي “على العصي” المرتفعة، بعيداً عن المسرحية، وتعثره لأكثر من مرة ولكن في النهاية؛ رجل يقف خلفه لا تميزه إذا كان من المرضى أم من عمال العيادة، يسنده من الخلف ممسكاً بالعصاتين لتتحقق للماشي مهمته المستحيلة.