السعداوي: “غبار” الحقيقي ما سيخلقه المشاهد..
أما فيلمي فينتهي في غرفة المونتاج..
المنامة – حسين مرهون
إن كنت لم تسمع بعد شيئاً عن السينما الفقيرة فإن “غبار” قد يصبح دليلك إلى هذا النوع. الفيلم الذي عرض مؤخراً على شاشة نادي البحرين للسينما، إحدى أقدم شاشات العرض في البحرين، وهو من إنتاج ورشة في أساسيات إعداد الفيلم، لم يستهلك توضيبه أكثر من 300 دولار. بالطبع ليس هذا نعتاً يُعتدُّ به نظرياً، إنما هي تسمية أتت اعتباطاً من طريق أحد المشاركين في الورشة في سياق توصيف عادية الكلفة وتلقائية المشاهد التي جرى استقاؤها من الواقع مباشرة وجرى تركيبها لاحقاً في غرفة المونتاج.
تقتنص مشاهد فيلم “غبار” لقطات واقعية من حياة الناس المهمشين، رواد المقاهي، المرضى النفسيين، والمشردين على أرصفة الشوارع عبر زجهم من غير سالف تحضير وجهاً لوجه أمام الكاميرا. ثم تتدخل لاحقاً يد المخرج عبدالله السعداوي، المشرف الفعلي على الورشة، عبر تقطيعها ومنتجتها ثم وضعها في سياق سينمائي، مستفيداً في ذلك من خلفيته في حقل المسرح التجريبي. محرر الجزيرة الوثائقية التقى السعداوي في المنامة فكان الحوار التالي ..
* ما الذي كنت تفكر فيه حين شرعت في إعداد هذا الفيلم؟
أفكار عدة. أعايش وغيري يومياً اختفاء البحر عبر عمليات الردم المستمرة. المدينة تتوسع من غير أية عوائد للفئات المهمشة، في حين يتم تقديمها على أنها الجنة الموعودة. السوق تتحكم في كل شيء وتسطح كل شيء؛ حتى الديمقراطية. طبقة المستثمرين، وهي فئطبقة ناشئة، ظهرت لتمارس أشكالاً جديدة من الهيمنة. ضمن هذا السياق بدأت تخرج مجموعة من الأفلام التي تناقش استحكام السوق. سينما بوليوود أنتجت أفلاماً كثيرة في هذا الإطار. كل هذه التراكمات كانت تعتمل في داخلي، وشعرت بالحاجة إلى عمل شيء للسينما يلامس هذه المفاهيم من زاوية النقد. ليس بطريقة النقد اليسارية القديمة إنما بالطريقة التي مارسها مايكل هارت في “الجمهورية والإمبراطورية”. أعتقد أن ذلك غدا شيئاً لازماً الآن، فالزمن لم يعد زمن البراءة القديم. والفيلم في النهاية دعوة للمشاهد كي يراقب الأشياء من حوله في حدود هذه الفكرة.
![]() |
* تبدو الأفكار أقرب إلى التجريد منها إلى الصناعة الفيلمية. تقنياً، كيف جرى توضيب صلاحيتها لفيلم سينمائي؟
أصل العمل كان عبارة عن ورشة لمجموعة من الشباب حول تعلم أساسيات إعداد الفيلم. المفهوم الرئيس الذي انطلقت منه الورشة كان التالي: ليس ثمة واقع موجود، إنما هناك مفعولات لهذا الواقع. في هذا السياق كنا نصور مشاهد مختلفة من الواقع، هي في الحقيقة ما عنيته من كلمة مفعولات، من أجل معالجتها في إطار الورشة وإدارة المناقشات بشأنها. فكانت الورشة هي الأساس، أما الفيلم فكان مشروعاً مؤجلاً دائماً. أعني أن كل القصة، ولا بد أنك لمست ذلك من خلال مشاهدة الفيلم، تتمثل في مجموعة من الشباب يسعون إلى عمل فيلم لكن تحقيق ذلك يبقى حالة مؤجلة. لا يحضر الفيلم إنما تحضر كيفية عمله. لذا تجد أن الفيلم ينتهي في غرفة المونتاج، أي في اللحظة التي تبدأ فيها عملية منتجته. تلك كانت المعالجة.
• هناك من همس بشأن واقعية بعض المشاهد في الفيلم. شخصية الحاج عباس منظف السيارات الذي تردد أنه توفي مؤخراً.
معظم المشاهد استقيت من أرض الواقع. ليس فيها أي شيء مصطنع. اللهم إدخال بعض المنتجة الخفيفة، من قبيل التقطيع إضافة إلى التقديم والتأخير. الحاج عباس الذي أشرت إليه جرى تصويره في أثناء ممارسة عمله اليومي المتمثل في تنظيف السيارات في مكان قريب من الموقع الذي تجري فيه أعمال الورشة. لاحقاً حين لم نعد نراه، ذهبنا للسؤال عنه فأخبرنا عامل آسيوي يعمل بالقرب منه أنه توفي. ما دعا إلى أن نقوم باستحداث مشهد جديد، هو هذا الأخير، وإدخاله ضمن الفيلم. وهكذا بالنسبة إلى بقية المشاهد الأخرى. بمعنى آخر أن الفيلم، كان يستغل كل ما يجري في الواقع، يقتطع منه أجزاء ويضيف أجزاء، إلى أن يحوله إلى حالة سينمائية. حتى الإضاءة، لو دققت، تجد أنني استغنيت عن الإضاءة المصطنعة بالإضاءة الطبيعية المتمثلة في مساقط الشمس. كنا نراقب حركة الشمس، وتسللها إلى فضاء القاعة، ونحاول توظيفها في سياق الفيلم.
إن شئت، فالفيلم محاولة في البناء على أحد المفاهيم التي تطرح في حقل السينما وهو ما يدعى “خلق الواقع في الواقع” حسب الشاعر الإيطالي فازوليني. فالأخير كان يسعى إلى عمل مقابلة بين الواقع والأسطورة، وقد اشتغل على مقابلة أسطورة أوديب بالواقع الإيطالي. في فيلم “غبار” الذي نحن بصدده تجد أيضاً هذه المقابلة. عدا أنك تجد الواقع في الفيلم مركزاً بشكل أكثر مما هو في الواقع الأصلي. فالمشاهد في الفيلم تحيل على أماكن معروفة للمشاهد البحريني، لكنها في الفيلم تبدو كأنها شيء غريب. هذا شيء طبيعي ويتعلق بزاوية الكاميرا.
• في سياق هذه المشاهد التي تبدو خلوّاً من أي رابط بينها، عدا واقعيتها التلقائية. كيف جرى توظيف عنصر الزمن، أي الخيط الرابط للمشاهد في حين هي دالاّت على أحداث مختلفة؟
ثمة زمنان، الزمن الواقعي، أي الزمن في الواقع كما جرت الأحداث في سياقه. هذا الزمن أنت لا تستطيع السيطرة عليه عادة. وهناك الزمن الآخر، أي الزمن الفيلمي الذي تستطيع أن تحتويه وأن تهزم فيه عنصر الزمن عبر آلية التحكم فيه. ربما خير تجسيد لهذه الحالة، تلك الشخصية التي تظهر في الفيلم من وراء إحدى الشاشات المصطنعة، وتبدو قابلة للتطويع وفق إرادة المخرج ما دامت هي ماكثة وراء الشاشة. ولكن حين تمزق الستار رغبة في العيش في ظلال الواقع، هنا يأتي صوت المخرج مخاطباً إياها، إنها بهذا العمل قد ألغت كل مفاعيل السيطرة عليها. وبالتالي فعليها أن تتحمل بنفسها، من الآن فصاعداً، نتائج هذا الفعل. بالتالي ليست مشكلة حقيقية تلك؛ حين تغدو المشاهد متفرقة أو مستقاة من أحداث قد تبدو للوهلة غير مترابطة، ما دامت ستدخل في النهاية ضمن الزمن الفيلمي. أي الزمن الذي يمكن التحكم فيه. لكنه أيضاً، ليس الزمن المستقيم المعتاد من جانب المعالجة التقليدية لعنصر الزمن.
• نفهم الأشياء بتصنيفها. ما صنف هذا العمل الذي تشتغل عليه. بالطبع، ليس واقعياً حتى وهو ينطلق من الواقع. وحتماً ليس تجريبياً، حتى وهو يوظف تقنيات التجريب. فما هو إذن؟
ثمة مفاهيم كثيرة في السينما. ثمة ما يدعى بسينما الحقيقة وثمة السينما المباشرة والسينما السريالية والسينما المطلقة، وثمة السينما التجريبية. الفيلم عبارة عن مزيج بين هذه المفاهيم جمعاء. وهي ليست المرة الأولى التي ألجأ فيها إلى هذه التقنية. وقد استخدمتها أكثر من مرة لكن في المسرح.
• يمكن نسبة تكوينك الأساس إلى المسرح. إلى أي حد تدخل هذا الأخير في مراحل إعدادك للفيلم؟
حين ترى إلى المشاهد في الفيلم لا تشعر أنها مشاهد مسرحية. لكن في الوقت نفسه، فأنت ما من شك، سوف تستشعر أن هناك خبرة مسرحية وراءها. هناك في حقل المسرح فكرة تقول إن المسرح هو فن التمثيل وليس فن الممثل. ما يعني أن أي شيء يمكن تحويله إلى عنصر مسرحي فاعل على الخشبة. في المقابل، فإن السينما على العكس، فهي فن الممثل وليست فن التمثيل.
بمعنى أن الطاولة مثلاً ستبقى حتى نهاية الفيلم هي الطاولة نفسها. بالنسبة لي، فقد حاولت أن أعكس المفهوم الأخير، أي أن أجعل الأشياء داخل الفيلم تمثل في حين هي لم تعد للتمثيل أساساً. فكل ما كان يأتي كانت تتم الاستفادة منه في لحظة إتيانه. تلك إن شئت، هي الإضافة إلى الفيلم، والتي أتيت بها من خلال التكوين المسرحي.
• ماذا عن الموسيقى المستخدمة؟
في الحقيقة ليست ثمة من موسيقى في الفيلم. بمعنى آخر، ليست هناك موسيقى خاصة تم تأليفها إلى العمل. كل ما جرى هو توظيف تلقائي للموسيقى والأغاني التي كانت ترد عفوياً في أثناء المشاهد المصورة. في أحد المشاهد المصورة التقط داخل السيارة وكانت تشتغل إحدى المقطوعات الموسيقية. تلقائياً، تجد أن الموسيقى نفسها انتقلت إلى مشهد آخر. بالتالي، لم تكن هناك موسيقى جرى تأليفها، إنما كل ما تواجد بين أيدينا قمنا بإدخاله.
• الفيلم، كما أسلف، ينتهي في غرفة المونتاج. هل ننتظر إذن نسخة أخرى من الفيلم ما بعد غرفة المونتاج؟
لا، الفيلم الذي يأتي بعد غرفة المونتاج هو ذاك الذي يخلقه المشاهد في مخيلته. فالعمل إذن، وهذا واحد من أهداف الورشة، بمثابة دعوة لكل واحد من المشاهدين أن يتجه إلى خلق فيلمه الخاص، أي بناء رؤيته الخاصة إلى الواقع من طريق التقنيات التي يفترض أنه تحصل عليها بعد مشاهدة الفيلم. إنه تمرين إذن لمخيلة المشاهد، كيف يمكنه رؤية الأشياء بطريقة أخرى.
• كم يكلف إنتاج هذا النوع من الأفلام؟
– أحد دواعي إقامة الورشة هو القدرة على عمل فيلم من غير كلفة. إن أردت، فكل الذي كلفنا لم يجاوز المائة دينار ليس أكثر (حوالي 300 دولار). وذهب المبلغ لشراء الأشرطة لا غير. صديقي محمد جناحي أطلق على الفيلم تسمية لطيفة وهي “السينما الفقيرة” لا أعرف من أين أتى بها….
![]() |
ويظل السعداوي بلحيته البيضاء مسافرا.. متكئا على عصاه