الفوز : حجر أسود رؤية شعرية لعلاقة النازح بالأرض

الفوز تنجور مخرج سوري متخصص في الفيلم الروائي ولكنه يهب للوثائقي حيزا كبيرا من فكره وعمله ورؤاه الفنية. أخرج فيلم “حجر أسود” الذي تعرضه الجزيرة الوثائقية هذا الأسبوع. وهوفيلم يسلط الضوء على منطقة حجر أسود الواقعة في الجولان المحتل..

الفوز تنجور أثناء تصوير الفيلم

* قمت بتصوير ومونتاج وإخراج هذا العمل بنفسك. هل تعتقد أن قيام شخص واحد بالتصوير والمونتاج والإخراج عامل تقوية في المجال الوثائقي أم أنه من الأفضل وجود فريق كبير؟
درست السينما الروائية, وتخصصت في مجال الإخراج, وأومن كثيراً بأهمية الفريق الذي يأخذ فيه كل واحد على عاتقه مهمة محددة, ولكنني أيضاً أعتبر بأن الفيلم الوثائقي هو قصيدة, وحين يستطيع المخرج القيام بكتابتها, أي بتصويرها والعمل على مونتاجها, فهذا يمكن أن يعطيها شكل واحدا ومتكامل.
أعتقد بأن المونتاج هو جزء مهم, وأساسي من عمل المخرج, وبالنسبة لي, قيامي بالتصوير يمنحني القدرة على أخذ ما أريد, أو الحرية على اختيار كل ما يتعلق بشكل الفيلم, الضوء, اللون, الزوايا, أحجام اللقطات, بطريقة مناسبة لمرحلة المونتاج التي أبني فيها فيما بعد بنية الفيلم وإيقاعه بشكل أسهل, لأنني كنت أعمل عليه وأتخيله منذ البداية, أي منذ بدء التصوير.
وبشكل عام أعتقد بأن الفريق الصغير والمحدد, يمكن أن يعطي نتيجة أهم وأكثر غنى من الفريق الكبير في (مجال الفيلم الوثائقي) وخاصة لذلك النوع الذي يعتمد على سرد بصري, وبوح إنساني غير متكلف, وعلى رصد الحياة الملتقطة بقلب الحياة ذاتها, الفريق الصغير يقلل من التشويش, ويساعد أكثر على التركيز أثناء المقابلات بالنسبة لي وبالنسبة لشخصيات الفيلم, ويعطيني الحرية أكثر لاقتناص اللحظات التي أريدها بسرعة أكبر.

* يظهر أثر المدرسة السينمائية الروسية واضحا في أسلوبك الفني في هذا العمل. كيف يمكن الاستفادة من السينما الروائية في الوثائقي؟ وهل ترى الفرق بينهما شاسعاً؟
في السينما الروائية, يُبنى كل شيء, ويعاد خلقه من جديد ليأتي على صورة الواقع, ولكن من وجهة نظر المؤلف, الذي يبني عالمه كما يريد, كل ما يتعلق بسرد الحكاية, أو كل ما يلزم لقولها, الضوء, وحركات الكاميرا, ولعب الممثل, والديكورات, كلها تأتي لخلق شكل ومضمون الحكاية, الفيلم, الذي يعمل على حل لغز الواقع, وليس تقديم واقعاً مفكوك الرموز. السينما الروائية, ترصد الحياة وتسجلها, وتقول الحكاية كما أراد السينمائي المؤلف, من خلال اللقطات المتتالية, أما الفيلم التسجيلي فهو يرصد الحياة ويسجلها كما هي, طازجة, عفوية, وفي الكثير من الأحيان تحتاج لوجهة نظر محددة, لتأخذ أهميتها وترتقي لأن تكون سينما تسجيلية, أي أن يعاد صياغة اللقطات, أثناء التصوير, ثم أثناء تركيب الفيلم وبهذا فقط, أي من خلال التأليف, (وجهة نظر المؤلف), تصبح السينما التسجيلية مهمة.
بالنسبة لي أتعامل مع الفيلم التسجيلي, كأنه فيلم روائي, فأنا أختار كل شيء وأعيد بناءه من جديد, مع ضرورة الحفاظ على الصدق, شخصيات الفيلم, حركاتها أمام الكاميرا, ثم حركات الكاميرا, الأماكن, الأجواء العامة, الضوء وطبيعة اللقطات, ثم الموسيقى, الصمت, الحوارات, كل ما يلزم لأن أقول حكايتي, ولأن تأتي ليست فقط انعكاساً للواقع, وإنما العمل على حل لغز هذا الواقع, من خلال مجموعة من الرموز والدلالات الخبيئة, المهمة لفهم جديد ومختلف, وكما أريد أن أقول. 
تتقاطع السينما الروائية والتسجيلية بالنسبة لي في مفاصل كثيرة, أهما في الصدق وقول الحقيقة, في البناء, بناء الشكل والمضمون, في فهمي لأداء (الموديل- الممثل- الشخصية) لحظة تواجدها أمام الكاميرا, في طريقة السرد أحياناً, وفي أحيان كثيرة, حين يعاد توليف الحياة لتأخذ بعداً آخر, يمّكن من فهم مختلف وجديد للواقع.

* في بعض فترات الفيلم تطغى الصورة بقوة على جميع العناصر الأخرى. هل قوة الصورة في رأيك تعطي قوة للعمل ككل أم أنها يجب أن تبقى على قدر من التوازن مع النص والبنية الدرامية كي لا تضعفها؟
 نعم, إن الصورة المؤلفة, التي تحمل دلالة, من خلال الحجم والضوء, واللون, والفكرة, والميزانسين, والإيقاع, ثم من خلال طريقة ارتباطها بمجموعة أخرى من اللقطات, يمكن أن تقول كل شيء.
بالنسبة لي إن الصورة, وفقط الصورة(في السينما, والفيلم السينمائي التسجيلي) التي تحمل وجهة نظر المؤلف, للواقع, للحياة, هي العنصر الأهم والأساسي في قول الحكاية, وهي دائماً قادرة على رصد حقيقي ومهم للزمن-الحركة في السينما, ولكنها يجب أن تكون صورة ذاتية تحمل وجهة نظر المؤلف, وتعبر عنها بشكل حتمي لاختراق الواقع والولوج لعوالم الشخصية, والمكان, ولكن أيضاً في بعض الأفلام تكون الكلمة مهمة لسرد القصة, كما أن الكلمات أيضاً يمكن أن تقرر هوية الشخصية, طبيعتها, مزاجها, طريقتها في الحياة, والكلمات تعطي انطباعات محددة عن المكان-الشخصية-الحدث, يمكن الاستفادة منها في متابعة القصة وضبط إيقاعها بشكل أكبر.

* هذا العمل ينقل المشاهد في الزمان والمكان، بحيث يجعله يحب المنطقة التي يحكي قصتها – مع أنها منطقة يكثر فيها الدمار والبيوت المهجورة. كيف استطعتم توظيف العناصر الفنية لتحقيق هذه النقلة في وجدان المشاهد؟
أعتقد أن الشكل في السينما أهم من الفكرة, لأن الشكل هو الذي يحمي الفكرة ويدافع عنها في مواجهة الزمن, ومن هنا أعمل على بناء الشكل الخاص بالموضوع أولاً, ومنذ البداية كنت أعتقد بالنسبة لفيلم حجر أسود, بأن اللقطات الطويلة, الثابتة, التي تظهر المكان, وتوظفه وكأنه أحد شخوص الفيلم هو أمر أساسي, لذا اعتمدت على الولوج داخل هذا المكان, في الواقع, وفي الذاكرة, أو ما تحمله ذاكرة الشخصيات عن هذا المكان, ليأتي عالماً حقيقياً أحياناً ومتخيلاً في أحيان أخرى.
اعتمدتُ على بوح الذاكرة, البوح الحقيقي والعفوي لشخوص الفيلم, وكنت بحاجة لخلق علاقة لهذه الذاكرة مع الأماكن التي عبرتها وعاشت بها, لهذا عملت جاهداً على خلق هذه العلاقة, من خلال رصد المكان في الزمن, المكان الذي هو البيت, الأرض, الوطن, الذي يمتزج مع نسمات الهواء, وضوء الشمس, وأغصان الأشجار, ولعب الأطفال, وكل عناصر الحياة التي تضفي على هذا المكان ألوان الذاكرة, ثم من خلال خلق هذا التناقض بين المكان الذي يعيش فيه أبطال الفيلم, أي مخيم الحجر الأسود, بعبثيته, وضوضائه, والفوضى الذي تجتاحه من كل زاوية فيه, والمكان الآخر, الحلم, المدمر, البعيد, الجميل رغم الدمار, أو كما أرادوه أن يكون جميلاً في مخيلتهم, كما تركوه هناك وحيداً, في الذاكرة.
ثم أتت الموسيقى لتعمق المضمون البصري في الفيلم, ولتعلي من حدة التوتر الدرامي في اللقطات, ولتقرر هوية المكان, وتاريخ الشخصيات, ثم مصيرها.
ثم النص, أي التعليق, الذي أردته شعرياً إلى حد ما, ليكمل ما أريد قوله, وليأتي متجانساً مع اللقطات المأخوذة, والموسيقى, وليكون لوناً آخر ومختلف داخل الصورة, فيكون عنصراً متجانساً في بناء الفيلم.

* لكل فيلم وثائقي رسالة يرجوها أو هدف يبتغي تحقيقه. ما هو الهدف الذي رسمته لهذا العمل قبل أن تنجزه؟ وهل تظن أن الفيلم خرج بالشكل الذي يحقق هذا الهدف؟
منذ البداية أردت أن يكون الفيلم رؤية شعرية, إنسانية, لعلاقة هذا الإنسان النازح مع وطنه, معتمداً على بوح الذاكرة, صدقها, عفويتها, متعة استعادة ما هو غائب وبعيد.
كنت أريد بعيداً عن كل المقولات السياسية, أن أعبر عن حلم هذا الإنسان بالرجوع, عن علاقته الحميمة مع البيت, والطريق إلى البيت.
وكما قلت سابقاً عملت منذ البداية, لأن أخرج كل هذا من خلال الصورة, طبيعتها, بنائها, وجودها في سلسلة لقطات, توليفة الواقع, علاقة الفضاء-الزمن..إلخ..
وأترك للمشاهد تقييمه لمدى اقترابي من قول الحقيقة.

* هل ترى أن قوة النص المحكي (التعليق والمقابلات) وحضوره في العمل الوثائقي العربي بشكل خاص ضرورية أم أنه يمكن التنازل عن جزء من قوته لصالح قوة الصورة وحضورها؟
إن السينما تروي عوالمها وقصصها, وأشخاصها باستخدام الصور, وتعبيرها تصويري كتعبير الأحلام.
أعتقد بأن الصورة في السينما هي العنصر الأهم والأساسي في قول الحكاية, ولا يجب أن تفقد وظيفتها الأساسية كوسيلة تعبير بصري, الصورة في السينما هي انعكاس شعري عن الواقع, استعارة, ولكن في السينما التسجيلية, الكلمة أيضاً ضرورية لقول الحكاية, الحقيقة, بشرط, أن لا تأتي على حساب الصورة, ولا تأخذ دورها, وأن تكون مكملة, أو عنصر آخر في بناء الشكل النهائي للصورة-الفيلم. 
 


إعلان