حجاوي : الوثائقي مرهون بالسياسي

  نلتقي هنا مع عارف الحجاوي مدير البرامج في الجزيرة الإخبارية لنتحدث حول هموم صناعة الفيلم الوثائقي وحدوده وإفاقه، مستعينين في ذلك بخبرات الحجاوي التي راكمها في هذا الطريق.

حاوره: حسن المرزوقي

بحكم اختلاف المتفرجين النسبي أحياناً والجذري في أحايين أخرى، ما هي  فلسفة إنتاج الوثائقي في الجزيرة الإخبارية؟

في بداياته ظل الوثائقي على شاشة الجزيرة الإخبارية تقريراً إخبارياً مطولاً، كان المراسلون في عواصم العالم المختلفة (القاهرة، عمان، إسلام آباد…) هم الذين ينتجون الفيلم الوثائقي، كانت تقوم لديهم صور كثيرة عن موضوع إخباري ما فلا يستطيعون أن يوظفوا كل هذه الصور في نشرة أخبار فيجمعونها في وثائقي.. من هنا وبالضرورة كان الوثائقي عبارة عن تقرير إخباري مطول وظل هذا ما يحدث مدة من الزمن، ومع انشغال المراسل بالأخبار وتطور صناعة الوثائقيات عبر العالم اتجه زملاء آخرون إلى هذا الميدان، كانوا يعملون في غرفة الأخبار ولديهم أيام قلائل لكي يسافروا ويصورا ثم يعودوا إلى غرفة المونتاج. منذ سنوات قليلة تفرغ بعض الزملاء وبدأوا ينتجون الوثائقي بشكل مستريح أكثر، بوقت أطول في غرفة المونتاج، هنا بدأ يدخل عنصر الاختلاف. أنا هنا أتكلم عن الناحية التقنية.. استخدمنا أكثر المتاح مونتاجياً.. الأساليب المونتاجية المختلفة، وبشكل مستمر تطور الوعي بالمونتاج وتطورت خبرة الزملاء المونتيرية فأصبحوا يوظفون الأكثر إثارة في تمثيل الحدث، والبناءُ نفسه بدأ يأخذ الأشكال الوثائقية المختلفة والبعيدة عن التقرير الإخباري.

إذا ترجمنا الكلام ترجمة نقدية.. ، نقول إن الوثائقي كجنس فني تطور على شاشة الجزيرة الإخبارية، بدأ كجنس وكروبورتاج طويل ثم انتهى إلى وثائقي بمعنى جنس فني سينمائي؟
 
أنا لا أزعم أننا وصلنا إلى الوثائقي الأمثل، لكن أشير هنا إلى مشكلات مازالت تواجهنا، أهمها المشكلة المالية ومراكمة الخبرات وقلة عدد العاملين، نشاهد بعض الوثائقيات التي تصدر في بلدان العالم، وفي المؤسسات التي ترصد ميزانيات أكبر نرى أن 20 شخصاً عملوا في هذه الساعة الوثائقية ونراهم سافروا إلى عدة بلدان وأنفقوا أشهراً طويلة، ماذا بالنسبة لنا.. مازال عملنا فردياً.

بحكم أن القناة إخبارية والأخبار في النهاية تخضع ثقافيا أو في مستوى التلقي إلى مفهوم معين، عندما تشتغلون على الوثائقي أحيانا هل تغلبون تيمة إخبارية على ما هو فني؟

صحيح، إذا كان الحدث حاراً فنحن ننطلق منه ونعمل الوثائقي على هذا الحدث ولا يكون الحدث بعيداً عن الأخبار بما يكفي لكي يستريح الحدث. الحدث يكون ملتصقاً بالأخبار إلى حد كبير .

كأن الوثائقي هو توسعة؟

توسعة للأخبار وتعويض، لأننا قناة إخبارية والثقافة قليلة الحضور في الوقت المشاهد (المساء) لذلك ترانا نعمل وثائقيات ثقافية لكي نعوض النقص، فنتجه ثقافياً لأن المحطة تغلب عليها الأخبار.

من منطلق نقدي يرى البعض أن الوثائقي على شاشة الجزيرة الإخبارية هو لخدمة الخبر في الأغلب الأعم.. ما مدى صحة ذلك؟

لا أوافقك، مازال سياسياً في طبيعته العامة وينحو منحى الثقافة للتعويض عن قلة ما نبثه من الثقافيات. فهذه الخلطة موجودة باستمرار لكنه ليس الوثائقي التاريخي، نحن لا نقص قصة تاريخية قديمة ليست لها في الواقع أصداء.. كامب ديفيد مثلاً معاهدة قديمة منذ 30 سنة، تحل مناسبتها الآن (الذكرى الثلاثون) فعندنا وثائقي عنها، إذاً هو تاريخ ولكنْ، له أصداؤه المعاصرة.

إعادة إنتاج.. إعادة بناء؟

عارف حجاوي

هو يقع بين السياسة والتاريخ ولكن ليس بشكل مطلق، الحقيقة أننا في إنتاج الوثائقي يحكمنا واقع هذه الصناعة في العالم العربي.. الخبرات نادرة أو هي أقل مما نجده في أوروبا وأمريكا في هذا المجال.. الخبرات في النص، في التعمق، في البحث، وفي الصورة بشكل أساسي.. تقنيات الصورة الآن انطلقت إلى أبعاد كبيرة، في العدسات، في الزوايا، في طريقة التصوير وفي المونتاج .. التصوير بالهيلكوبتر في كثير من الوثائقيات الأجنبية أصبح أحد الأساليب، لكنه منعدم في عالمنا العربي.

بالمناسبة أوسكار الوثائقي الأمريكي فاز به (رجل على خيط) وهي قصة طريفة لرياضي بهلواني فرنسي سار عام 74 بين (برجي التجارة العالمية في نيويورك)، الفيلم كله يتحدث عن هذا الرجل ولم يتطرق لأحداث 11 سبتمبر أبداً والذي ينظر إلى الفيلم يشتم رائحة 11 سبتمبر ويحس به من منظور غربي دون أن يرى دماراً.
هذا يقودنا إلى موضوع آخر: هل جمهور الوثائقي هو جمهور الأخبار؟ نعم، هو نفس الجمهور إلى الآن لأن الوثائقي يعرض في الفترة الإخبارية المهمة (المساء) ويشاهده المشاهدون.

لهذا تختارون الوثائقي الذي يتصف بالمشاكسة ويميل للسياسة؟

نميل ميلاً شديداً إلى السياسي، هذا صحيح، ولكن أحيانا نعرض الوثائقيات من نوع نصف ساعة قبل الذروة بقليل، في الخامسة مساء (المضادات الحيوية، البيئة، المياه في العالم…) نعرض أشياء من هذا القبيل ولا نقصر فيها.

لدينا مجلة علمية وثائقية على الموقع تصدر كل 3 شهور والمفترض أنها أكاديمية موجهة للطلبة والباحثين وسيكون موضوعها القادم (الوثائقي بين الذاتي والموضوعي) بعد أن كان عنوان عددها الأول (من السلطان إلى الإنسان).. ما قدر الموضوعية لديكم؟

نحاول أن يكون كبيراً وهو في بعض الأحيان أكبر مما نريد.

لاسيما وأن الجزيرة تتهم في بعض الإعلام العربي بالميل إلى توجه إيديولوجي معين. ربما أنت تتابع ما يقال في هذا الموضوع؟
بخصوص الذاتي والموضوعي هناك رؤية للمخرج نحترمها ونُنقد عليها طبعا.. إذا كانت بعيدة عن الحقائق فإننا نستبعدها ولا نسمح ببثها. ولكن حين تربط مخرجة بين أبي مصعب الزرقاوي وبين جيفارا في عمل وثائقي عن الأخير فعليّ أن أعترف بأنها استطاعت أن تصنع ذلك بطريقة تقنعني بوجود صلة.. هذه المخرجة لها شخصية ولها طريقة ورؤية، نحن لا نصادر هذه الرؤية وحريصون دائما على ألا نصادر تفكير الناس. مثلاً على صفحات جريدة الحياة نُقدنا بأن هذا الوثائقي أتى بعد برنامج كانت فيه هجمات على الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وفي وثائقي آخر عرضناه كان فيه ما رآه الكاتب تمجيداً لعبد الناصر. فهل نحن نعوض.. الحقيقة: لا، نحن نترك الحرية للناس لكي تعبّر شرط ألاّ تستعمل الجزيرة كمنبر.

ولكنكم تختارون الرؤية التي تناسبكم في النهاية؟

المطروح بالعربية ليس كثيراً، نعم.. تأتينا وثائقيات كثيرة من أناس تخرجوا أمس من مدارس السينما أو الفنون، ويأتون بمشاريع تخرج ونقول لهم انتظروا قليلا حتى تنضجوا.. في العالم العربي هناك نقص في الاحترافية نعاني منه كثيراً.

في “الواجهة” وثائقي أم ريبورتاج؟

هو وثائقي سياسي، بمعنى أنه يأخذ أحياناً الأبعاد الوثائقية الفنية بكل معنى الكلمة. أحياناً يكون الحدث ساخناً نكون مستعجلين لتلبية متطلبات الشاشة والحدث بحيث يكون وثائقياً سياسياً، وهو ليس تقريراً طويلاً، هو أنضج من ذلك في حالته السياسية وفي حالته عندما يكون وثائقياً فنياً، فهو من الوثائقيات التي نعتز بها كثيراً.

في النهاية هل يمكن القول إنكم في الجزيرة الإخبارية تضحون بالفني من أجل السياسي إذا اضطررتم؟

نعم، هذا ممكن.

برأيكم هل الوثائقي يمكن أن يغير إلى حد ما صورة الأخبار “المتجهمة” على الجزيرة الإخبارية (16 قتيلاً و20 جريحاً)

هذه طريقة طيبة، ونحن نطالب الإدارة العليا بقدر كبير من المال حتى ننتج أكثر من الوثائقيات وحتى نغير صورة الأخبار “المتجهمة”، لأن الأخبار لا يمكن إلا ان تكون سيئة فهذا من ضمن تعريف الخبر.. حتى ننتج وثائقيات تدخل إلى ما وراء الحدث وأحياناً تستخرج ما هو مفرح ومليء بالأمل من وراء الحدث. نتمنى أن تزداد ميزانيتنا كثيراً.

ننتظر الآن تقريراً عن دُور السينما المخصصة للوثائقي في السويد (دُور سينما خاصة فقط بالوثائقي) تاريخ السينما بدأ بالوثائقي.. وأول ما صوره الأخوان لوميير وثائقي؟

حتى السينما العربية بالإسكندرية والملك فؤاد…. الخ. في الواقع أنا أتابع كثيراً من الوثائقيات وألاحظ انحرافاً في الدكيودراما إلى درجة أني لا أعرف الخط الفاصل.. طبيعة المَشاهد، وهذا يسبب لي بعض الإرباك. مثلاً قبل سنة أذاعت الجزيرة الوثائقية سلسلة عن أحداث هزت العالم وهو برنامج لـ بي بي سي من (54 حلقة) وقد تابعته من الأصل.. أحياناً أضيق به لأني أحس أحياناً بأنه تقليد، ويرقع المواقف من خياله.

لأنه داخل في فلسفة معينة، في مدارس معينة لمفهوم الصورة ومفهوم الموضوعية نفسها.. أعني أن الموضوعية ليست مطلقة والذات هي جزء من الموضوع؟

في الواقع ينحرف الوثائقي عندما تكون الموضوعية ليست موجودة ويقنع نفسه بذلك وينطلق على هواه. وعلى رأي يوسف شاهين لما قالوا له: “أنت بذلك الفيلم أظهرت البطل التاريخي الفلاني سيئاً جداً”. كان رده: “أنا عاوزه كده، أنا عاوز أطلعه زبالة”، هنا أقول: بالسينما لا أناقش يوسف شاهين ولكن في الواقعي أناقش وأشدد النكير على من يقول: (لا توجد موضوعية)، لا، توجدُ موضوعية كما توجد منضدة تسمع صوتها.. الموضوعية موجودة وذاتك موجودة، لا تعارضْ الموضوعية ولا تقللْ من شأن ذاتك، اعملْ المعادلة المعقولة بينهما، ولكن لا تنكرْ الموضوعية، حين تنكرُ الموضوعية وتدّعي، وتقع في الكذب.. بالتأكيد إذا قلت إن الدولة الفلانية مجرمة وتحملها كذا وتشبهها بهولاكو تكون لويت أعناق الحقائق كثيرا.. أمريكا هجيت كثيراً بعد أحداث العراق لابد ان تكون موضوعياً كثيراً فتأتي بالأرقام والمبررات والرأي الآخر.. أنا أعتقد انه بالوثائقي ينطبق شعار الجزيرة (الرأي والرأي الآخر) لأنه يوازن الأمور كثيراً.                 
   


إعلان