حينما تفتش السينما عن المرأة
لم تكن السينما العربية بعيدة عن واقع مجتمعنا الشرقى حين كانت تشهد ولادة عسيرة لإيجاد لغة جديدة أكثر تحضرا ومنطقية فى التعامل مع الأنثى. ودوما كان موضوع المرأة بابا موصدا بآلاف الأقفال ما أن نفتح واحدا منها حتى نتعثر فى غيرها، ونظل نفكك حلقات معقدة ومتشابكة وفى كل مرة يتلمسنا اليأس ونوشك أن نعاود إقفاله من جديد ونسده ونستريح..!
![]() |
فاتن حمامة
فى البداية كان العزف على لحن النظرة السائدة للمرأة من منطلق البعد عن الأفكار الصادمة التى تمس صلب التركيبة الذكورية السائدة، ففي أربعينيات القرن الماضى قدمت السينما المصرية نموذجا للمرأة التى تسعى للعمل جنبا إلى جنب الرجل بصورة تتراوح ما بين الكوميديا والسخرية والإدانة الصريحة لسعيها للاستقلال، وفى نفس الوقت كانوا يغازلون النظرة الغربية المتحررة للمرأة من بعيد، وكان من أشهر هذه الأفلام تلك التى قدمها الثنائى محمد فوزى ومديحة يسرى مثل “الأفوكادو” و”آه من الرجالة” وبنات حواء وكذلك الفيلم الكوميدى الشهير “الأستاذة فاطمة” لسيدة الشاشة فاتن حمامة. والتجارب التي قدمتها الفنانة ماجدة الصباحى وركزت فيها على المشكلات الإجتماعية التى تظلم المرأة وتتجاهل إنسانيتها وحقها فى الاختيار، كانت كلها محاولات جيدة ورسائل تنتصر لدورها كزوجة وأم وتقلل من أهمية مشاركتها المجتمعية.
![]() |
مديحة يسري |
مما لا شك فيه فإن تلك التجارب فتحت المجال واسعا لمزيد من الأعمال الأكثر جدية وجرأة أثارت جدلا مجتمعيا واسعا، في فترة الستينيات ومع النهضة الثقافية التى شهدتها مصر وانتشارالفكر اليسارى بين رموز كبار مثقفينا بدأت قضايا المرأة تأخذ منحى جادا وعميقا وتحاكي الروايات والأعمال الأدبية التى أثرت في الحياة الفكرية ودفعت بقضايا المرأة إلى الصدارة وعالجت العديد من المشكلات النفسية والعاطفية لجيل الخمسينيات والستينيات وانتجت السينما المصرية مجموعة من الأفلام الرومانسية أصبحت فيما بعد من أهم الأعمال الفنية الكلاسيكية التى تؤرخ للسينما.
![]() |
صلاح أبو سيف
نذكر منها “مشكلة الحب الأول” الذى تناوله الراحل إحسان عبد القدوس والذى إعتبره وهما كبيرا فى روايته الأشهر “الوسادة الخالية”، وأخرجها رائد الواقعية المبدع صلاح أبو سيف واختار لها لبنى عبد العزيز التى قدمت نماذج مختلفة للمرأة المستقلة العنيدة التى تجابه محيطا يلفها بالأفكار البالية والنظرة الدونية للمرأة واختار أبو سيف بذكائه وجرأته المعهودة أمامها عبد الحليم حافظ الذى تربع على عرش الغناء الرومانسى بلا منافس وسكن صوته قلوب العذارى والمحبين سنوات طويلة لم يفارقنا عبقها وسحرها الجميل حتى يومنا هذا.
![]() |
إحسان عبد القدوس
الواقع أن فترة الستينيات فى السينما اقتحمت كثيرا من الموضوعات الحساسة التى اخترقت حاجز التحفظ والممنوع، عبرت عنها وأرخت لها عدة أعمال تعد من أهم ما قدمته السينما الكلاسيكية ومنها على سبيل المثال لا الحصر “أنا حرة” و”الطريق المسدود” “والباب المفتوح ” ، حيث قدمت المرأة وهى تواجه تحديات مختلفة وتفلت من قيد لتقع فى آخر، تتعثر وتنتفض بين التقاليد والخطاب الدينى المتشدد وقسوة مجتمع يكابد رب العائلة فيه لكي يجد مكانا ومكانة له ولأسرته، فنشاهد تحولا ملحوظا فى الأسلوب الذى قدمته بطلات السينما والخروج عن الأدوار المعتادة التى اعتادها المشاهد الشرقي فنرى فاتن حمامة تخرج من رداء الأنثى المغلوبة على أمرها المظلومة دوما والعاجزة عن الدفاع عن نفسها فى تحدى حقيقى لقهر المسلمات القاسية التى يتمسك بها المجتمع وهى تجسد قصة حياة الأديبة لطيفة الزيات. وكيف تقاذفتها خطوط متقاطعة بين الحالة العامة التي تشهد نموا كبيرا لحركات التحرر الوطنى وانضمام الشباب للحرب الشعبية فى صفوف الفدائيين فى مدن القنال والخروج فى المظاهرات وبين دورها الذى تتطلع إليه الأسرة لها بأن تحظى بالعريس المناسب وتصبح فى كنف رجل يحميها.
![]() |
|
تجد المرأة في هذه الأفلام نفسها في دوامة التناقض المزمن الذى يجسده الرجل الشرقى فى علاقته بالمرأة وإزدواجية المعايير بين ما يرضاه لنفسه وما لا يقبله من الآخرين، وكذلك الظلم الإجتماعى المفرط الذى عانت منه الطبقات الدنيا وانعكاسه السلبى على وضع المرأة كما شاهدناه فى روائع درامية مثل بداية ونهاية لنجيب محفوظ والحرام ليوسف إدريس فى السبعينيات. فقد علت نبرة استقلال المرأة وبدا التعبير عن رغباتها المشروعة وحقوقها المسلوبة أكثر وضوحا بصورة بدت صادمة للكثيرين سواء فى استخدام الجنس كلغة تترجم المشكلات النفسية أو الازمة العامة التي تمر بها المجتمعات العربية، مثل “حمام الملاطيلى” لصلاح أبو سيف و”المذنبون” لسعيد مرزوق، ثم يأتي حادث النصف مترللمخرج أشرف فهمي ليخترق التابوهات التي تحيط بالعلاقة بين الرجل والمرأة ومواجهة مباشرة مع موروثاتنا الثقافية والاجتماعية ليفتح المجال للغة أكثر واقعية تتخلص من خطوط الزيف وترفع الحرج عن التعابير الإنسانية التلقائية بجنونها وعشوائيتها وصدقها وبساطتها.
ويظهر في الأفق السينمائي رغم أزمة السينما وأزمة الإنتاج وخلافه تظهر مجموعة من المخرجين والمخرجات ينتمون إلى جيل وجد نفسه فى التمرد على الثوابت الفنية والاجتماعية ليجتذب الغالبية العظمى من الشباب وينقل لغتهم الجديدة ويضرب على أوتارهم الشديدة الحساسية من المجتمع المحيط بهم، حالة تتقمص التناقضات المتعايشة مع بعضها البعض فى قالب يجمع بين السخرية والمرارة وفقدان الوجهة الصحيحة وكذلك الإدانة الصريحة والرفض للواقع الذى صادر حريتهم وفرض قيّمين عليهم باعتبارهم دوما فاقدي الأهلية، فجاءوا بمفرداتهم التى لا تقيم وزنا كبيرا لمحددات الرقيب ولا ترضى هوى عامّا. فتفرج الشاشة عن العلاقات الغير مقيدة بشروط أو أطر.
![]() |
فيلم سهر الليالي
وأخيرا خرج علينا القرن الحادي والعشرين بسينما الشارع حيث تتعايش كاميرا الشاشة الكبيرة مع ناس الأزقة والحارات وتخرج ما فى الباطن من قبح وما تاه من طهر، في نماذج مختلفة من أسرار البنات والتجربة الأولى لعزة شلبى أخرجها مجدي أحمد على “سهر الليالى” قصة تامر حبيب وأخرجها هانى خليفة. و”النعامة والطاووس” لمحمد أبو سيف وأوقات فراغ لمحمود مقبل و”عمر جمال” وإخراج محمد مصطفى والأبواب المغلقة لعاطف حتاتة، تجارب هامة قام بها شباب جديد بفكر وأسلوب جديد يقدمون فنا لا يعرف الكذب وربما يسرف فى شفافيته فيخترق العيون بقوة، ويمس ما لا نعترف به وينكش القوالب الجامدة التى نركن إليها، تناولوا العذرية والشرف والخيانة والكبت الجنسى والتطرف والضعف الإنسانى حين يبتزه الفقر والحرمان والقهر والمرأة دائما كانت العنوان والستار والوسيلة لقد فتش الفن السابع عن المرأة ووجد من خلالها لغته الأقوى…