أفلام الديجتال: سينما بديلة من رحم التكنولوجيا

عندما ظهرت تقنية الفيديو وانتشرت ظاهرة اقتناء الأشرطة ومشاهدة الأفلام على شاشة التلفزيون العادية في الثمانينات، بدى أن السينما مهددة من قبل دخيل تكنولوجي غريب عنها، حيث كانت الخطورة تكمن حينها كما يرى البعض؛ في ضرب أساس طقس حضور الفيلم السينمائي، بشروط السينما، بالجنوح المتزايد نحو الرغبة في مشاهدة الأفلام في المنازل بشرط يختلف كثيراً من حيث درجة جودة التلقي، عن تلك التي تحصل عليها من متابعة الفيلم في صالة السينما، وكان هذا الجنوح نفسه بشكل من الأشكال تهديداً حقيقياً لصناعة السينما بحد ذاتها بوصفها تجارة تعتمد على شباك التذاكر بالدرجة الأولى.
وبالطبع لم يكن لذلك تأثيراته السلبية على السينما الغربية بمقدار ما كان على السينما في العالم العربي على وجه الخصوص كون الحالة السينمائية قلقة في الأساس وتعاني ما تعانيه حيث لم تكن وصلت بعد إلى مرحلة الصناعة الحقيقية المستقرة. ولكن إذا كان هذا التطور التكنولوجي قد ساهم في تأخر الإنتاج السينمائي مع جملة ظروف أخرى؛ فإن هذا التأخر قد ساهم أيضاً بدوره فيما بعد في دفع الطاقات السينمائية الشابة، وغير الشابة ربما، وقد راحت صناعة السينما تتأخر أكثر فأكثر إلى التقاط تطور تكنولوجي جديد؛ كمن يلتقط القشة، والتشبث به بكل الأطراف والأذرع كأنه هبة لن يتكرر هبوطها مرة أخرى عليهم كنجدة مباركة لتكون من الحلول الجديدة لأزمة الإنتاج السينمائي. هذه التقنية كانت كاميرات الديجتال.

ضرورة عربية خاصة
ما الذي جعل هذه التقنية ضرورة ملحة أكثر ��ندنا لتصبح مشروع السينما البديلة ربما، مكتسبة أهمية متزايدة؟ قد يكون مرد ذلك في الدرجة الأولى إلى كون صناعة السينما العربية الرسمية وقعت في مطب الروتين والبيروقراطية كما بقية الأنشطة الفنية الأخرى وتراجع الإنتاج الخاص، باستثناءات قليلة، وكون أجر الممثل لا يشكل العائق الأساسي في الإنتاج في هذه السينامات، بل كان العائق الأساسي والحقيقي التكلفة التقنية لصناعة الفيلم، وشرط تواجد المعدات الأساسية، الكاميرات السينمائية، أشرطة التسجيل الصوتي والمرئي، تحويل شريط النيغاتيف، والمونتاج من قص ولصق، وتوافر التقنيين المتخصصين والمحترفين في العمل على هذه الأدوات والخاصين بكل مرحلة من مراحل العمل، فالمعضلة هنا بشكل أساسي هي انتاجية تقنية بالدرجة الأولى، حيث كان بمقدور المخرج التحايل على الشروط الأخرى كتأمين الممثلين والسيناريو لكنه لم يكن يستطيع بأي حال من الأحوال التحايل على التكلفة التقنية في الصناعة الكلاسيكية للفيلم. مما أبرز الأهمية الخاصة لتواجد كاميرات الديجتال ولكن قبل ذلك، لعبت كاميرات الفيديو العادية دوراً في تأمين فرصة التصوير واختبار السينمائي غير المحترف على الأقل لقدراته من خلال المقدرة على التصوير السهل من جهة، والقدرة على مشاهدة نتيجة التصوير بشكل مباشر بعد إنجازه دون تكلفة تذكر، لكن دورها لم يتعدَ هذا المضمار نحو إنجاز أفلام، بسبب الإمكانيات المتواضعة لهذه الكاميرات من حيث جودة الصورة بشكل أساسي.
هذا العائق بالضبط ما تجاوزته كاميرات الديجتال، وهي التي يزداد أداؤها جودة يوماً بعد يوم، موازياً تطور تقنيات الكومبيوتر وبرامج المونتاج أيضاً. لا سيما وأنه في الإمكان تحويل فيلم الديجتال المنجز إلى شريط سينمائي وعرضه على شاشة السينما العادية، وهذا ما قامت به العديد من التجارب في الغرب الذي استفاد من التقنية الجديدة على صعيد خفض التكلفة أكثر من أصحاب السينما الأكثر تأزماً، ما ساعد في إفراز توجهات فنية استطاعت الاستفادة من الطروحات التي يمكن لتقنية الديجتال أن تقدمها للوصول إلى أشكال فنية جديدة للفن السينمائي، وهذا ما شاهدناه جلياً في تجارب مثل سينما الدوغما ومؤسسها “لارس فون تراير” التي وضعت من أولى أولويات قواعدها صناعة أفلام غير مكلفة، حيث أصبح بإمكانها الاستفادة هنا من التقنية الرخيصة.
أما على الصعيد العربي فأول تجربة لتصوير فيلم بكاميرا دجتال كانت على يد المخرج المصري يسري نصر الله في العام 1998 بفلم “المدينة” ثم تبعه العديد من المخرجين الآخرين.

يسري نصر الله ولكن بكاميرا تقليدية

سينما الشباب
ولكن يبقى التأثير الأهم لكاميرا الديجتال في الدرجة الأولى على السينمائيين الشباب. وهو ما لاحظناه يتعاظم في السنوات القليلة الماضية باضطراد، فلم يكن الشاب غير الأكاديمي، وربما الأكاديمي أيضاً، يحلم قبل عشر أو خمسة عشر عاماً بتصوير فيلم “سينمائي” وبإمكانية عرضه والمشاركة به بصفة فردية في مهرجانات سينمائية في مختلف أنحاء العالم، فلقد كان يفتقد أكثر للإنتاج وللحرية في الوقت نفسه، فمن أهم مكتسبات سينما الدجتال أنها أفسحت المجال لأن يكون عمل السينمائي أكثر استقلالية بعدم ارتباطه بجهة منتجة أو مؤسسة حكومية رسمية في حال استطاع إنتاجه بمفرده أو بمعونة إضافية أصبح من المستطاع بالتقنية الجديدة تأمينها. وعن ميزة الحرية هذه والاستقلالية نستطيع ذكر مثال المخرج “أحمد رشوان”، الذي أكد أن الفرق الكبير بين النوعين هو فقط في تكلفة الخام، ويؤكد أن “هناك كاميرات حديثة تماثل في إمكاناتها الكاميرات العادية” والذي حصل مع رشوان أن سيناريو الفيلم الذي ألفه، بعنوان “100% حي” حاز على جائزة السيناريو في العام2003 في مهرجان الإسكندرية السينمائي لكنه قرر إنتاجه على حسابه وتصويره بكاميرا ديجتال، وذلك حتى يتمتع بالحرية الكاملة على حد قوله. وربما كان من أبرز التجارب العربية المبكرة نسبياً في استغلال التقنية الجديدة الفيلم الروائي الطويل “لما حكيت مريم” للمخرج اللبناني “أسد فولادكار” 2003 وقد نال العديد من الجوائز.

الفائدة الأكبر من نصيب السينما التسجيلية
إذا اختزلنا الفارق الكبير في الإنتاج الذي تحققه كاميرات الديجتال، يبقى أمامنا اختزال ذلك الفارق الذي يحققه التوجه نحو الأفلام التسجيلية؛ فمن الملاحظ تحول الكثير من السينمائيين الشباب على وجه الخصوص من مشاريعهم في صناعة الأفلام الروائية إلى صناعة الفيلم التسجيلي بعد تجارب قليلة في المضمار الأول، وغالباً ما تكون الأسباب إنتاجية في الدرجة الأولى، وليست “فنية” إذا جاز التعبير، فمن جهة؛ للفيلم الروائي “القصير غالباً” تكلفة إضافية في تأمين السيناريو والممثلين والشروط المقبولة لإنتاج صورة جيدة وما تستلزمه من معدات إضاءة وخلافه. ومن جهة أخرى ليست لهذه الأفلام الروائية القصيرة سوق غالباً، لاسترداد التكلفة أو الحصول على ربح، بينما نلاحظ أن الأفلام التسجيلية، والتي من الممكن أن تكون طويلة، باستطاعتها أن تحقق مردوداً وربحاً جيداً بعد أن أصبح هناك قنوات تلفزيونية تعنى بالأفلام التسجيلية كالجزيرة الوثائقية وبعض المحطات الإخبارية التي تشتري هذه الأفلام من أصحابها بأسعار “دولية”، أضف إلى ذلك وجود مؤسسات مدنية ودولية وحكومية تهتم بتوثيق العديد من الظواهر والأحداث والأماكن والمدن لأغراض سياسية أو ثقافية. ولكن بغض النظر عن التوجه النفعي المادي لبعض أصحاب المشاريع التسجيلية، تبقى كاميرات الديجتال الحل الأنسب للسينما التسجيلية بما تؤمنه من سهولة في التنقل والرصد والتسجيل المباشر للصوت، وإمكانية أن تطول اللقطة الواحدة على شريط تسجيل كامل، دون حاجة إلى قطع، ما يقرّب العمل تقنياً أكثر من الماهية الأساسية لصناعة الفيلم التسجيلي القائمة على التوثيق الحر للموضوع دون تدخل الإجراءات التقنية وكوادرها في “اللعبة السينمائية” ولكن، هل تكون خيراً كلها تلك السهولة التي توفرها كاميرا الديجتال ؟

الاستسهال
لا يزال الكثيرون لم يستسيغوا التجارب المعتمدة على التقنيات الجديدة، ولا يكمن السبب، طبعاً، في النفور من التقنية بحد ذاتها، بل في الطريقة التي يتم بها التفكير من قبل أصحاب هذه المشاريع في استغلال هذه التقنيات، فمن الملاحظ بشكل عام أن غالبية التجارب الشابة والتي أصبحت تتداول وتعرف وتنشر بوسائل مختلفة، لا تنبع من مشاريع فنية حقيقية لدى أصحابها، ولا تمتلك المواصفات الفنية المخولة لعرضها على جمهور واسع، لأن صانعيها يفتقدون إلى الأبعاد الفكرية والاحترافية لإنجاز هذه المشاريع وغالباً ما تكون هناك أهداف غير فنية من وراء إنجازها. ومن جهة أخرى يرى البعض أن السبب في ذلك يعود إلى السهولة التي تحققها كاميرات الديجتال لمن يريد أن يخوض تجربة الإخراج، قبل توافر الخبرة اللازمة للإقدام على خطوة بهذا الحجم.
فهل تصبح كاميرات الديجتال في قادمات الأيام عائقاً أمام التطور الحقيقي للقيمة الفنية السينمائية، وقد أصبحت الكاميرا تقوم “بكل شيء” عوضاً عن السينمائي المأخوذ بالقدرة السحرية للكاميرات العصرية دون التفكير كفايةً في تفاصيل التكوين السينمائي وأبعاده الجمالية والفكرية؟ أم أن أفلام الديجتال وفي ظل غياب معاهد متخصصة لتعليم السينما ستنجح مع مرور الزمن في أن تكون السينما البديلة بإفراز نمطٍ من الاحتراف، يقوم على التراكم، وقد حققت التقنيات إمكانية إنجاز أعداد كبيرة من الأفلام لكل من يرغب؟


إعلان