بشار حمدان : عندنا قصور في المواضيع والرؤى 2
لقطات المشهدية الكلاسيكية ليست بالضرورة خطأ
حاوره : مجاهد البوسيفي
نخصص الجزء الثاني من هذا الحوار للحديث حول الفيلم الوثائقي وصناعته بشكل عام، مستطلعين اراء المخرج حمدان في ذلك.
كيف ترى صناعة التوثيق عربيا الآن، نقديا وفنيا واجتماعيا؟.
يلاحظ في الآونة الأخيرة ذلك الاهتمام غير المسبوق بصناعة التوثيق عربيا، وسأتحدث هنا بالمجمل عن السلبيات ، بحسب رأيي، لا الإيجابيات .
وأنا أتحدث هنا عن هذا الاهتمام اشعر بأنه يتم بمعزل عن التفكير في الاختلاف حولها فيما إذا كان معظم ما تقدمه صناعة التوثيق في الوطن العربي يندرج ضمن إطار السينما التسجيلية أو مفهوم الفيلم التسجيلي كما صاغه رواد السينما التسجيلية ، أم كونه لا يعدو مجرد أفلام تلفزيونية ذات قوالب فنية ضعيفة أشبه بالتقارير التلفزيونية ذات الطابع الإخباري وإن اختلفت عنها بطولها وببعض الفنيات المستخدمة كما يشير العديد من الناقدين والباحثين العرب المتخصصين في السينما ..
وعدم الاهتمام بهذا الجانب يبرره البعض كما (عائد نبعة) في مقالته حول السينما التسجيلية والتسطيح التلفزيونية ، بأن القنوات والفضائيات التلفزيونية تتسابق لعرض الأفلام التسجيلية من خلال ملاحقتها لما يسمى بالموضه الخبرية, فوقوع حدث ما في بلد ما يعني عرض فيلم تسجيلي عن هذا الحدث وفي أسرع وقت ممكن فتلجأ هذه القنوات إلى مجموعة من الشركات المستقلة ,أو تأسس بدورها شركات إنتاج تلفزيونية خاصة تابعة لها ، مما ينتج عنه أفلاما تسجيلية بالجملة مفرغة من سمتها الفنية والسينمائية دون نسيج فيلمي أو علاقة حقيقية في البناء البصري مما أدى إلى تسطيح الفيلم من مضمونه وسلبه للحقيقة التي جاء أصلا ليمكنها .
وإن كنت لا أنفي أن هناك العديد من التجارب والأفلام التي قدمت عبر القنوات كانت مميزة ولكنها لا زالت قليلة جدا في ظل هذا الزخم والتسابق بين الفضائيات.
فتناول العديد من القضايا في الأفلام كملفات عامة يتم النقاش حولها معتمدة على وجود شخصيات تتحدث حول الموضوع يتخلل الفيلم بعض اللقطات دون رابط بصري حتى وإن كان الفيلم غنيا بالصور يجعل هذه الأفلام أشبه بالكتاب الغني بالصور والوثائق .
وأعتقد أنه لا يزال هناك قصور في طبيعة المواضيع التي تتناولها صناعة التوثيق عربيا والتي في معظمها تنطلق من سياسة سيعتمد سياسة التقليب والبحث في الوثائق وتناول الأحداث الماضية وحتى لدى تناولها الأحداث المعاصرة .
فلا بد من التركيز أكثر على توثيق التفاصيل الحياتية والواقع المعاش في بلادنا والغوص أكثر في المجتمعات العربية وتقديم الناس العاديين والابتعاد عما اعتادته الفضائيات والإعلام من طبقات نخبوية اجتماعية أو سياسية أو ثقافية في تناولها للموضوع .
وأشبه حالة التسابق لهذه الصناعة التلفزيونية بما يشبه حال السينما العربية التي تتسابق لتحقيق الربح على حساب المقومات السينمائية والموضوعية الحقيقة الذي قال عنه المخرج الشهير أندريه تاركوفسكي “في الوقت الحاضر، يستخدم السينمائيون الإيقاع السريع لتمويه حبة الدواء التي يتعين على الجمهور البائس ابتلاعها.. بالأحرى، هذا الإيقاع موظف لكسب المال فقط ” وكما حال السينما هذا هو برأيي ، وأتمنى أن يكون خاطئا ، حال صناعة الأفلام الوثائقية العربية بشكل عام ولكن ليس بالمطلق .
لذا أتمنى أن تتجاوز صناعة التوثيق عربيا حال التلفزيون والجريدة والكتاب بالقدرة على التمكن من الأدوات البصرية الحقيقة لصناعة الأفلام مع الاحتفاظ بخصوصيتها التسجيلية حتى لا تأخذ طابعا روائيا فنضيع بين التسجيلية والروائية، ولا ضير من التجريب في العمل الوثائقي ، ولكن ضمن المعقول والمنطلق من واقعنا العربي ، والذي ترفضه العديد من الجهات المنتجة ، خوفا من فقدان المشاهد والمتابع لأعمالها ، وإن كنت أرى بتجاوز قاعدة “الجمهور عاوز كدة ” لصنع أفلاما وثائقية ما من شأنه أن يسهم في تطوير الذائقة البصرية وتنمية الثقافة الفيلمية لدى المشاهد العربي .
كمخرج يتعامل مع المشاهد العربى، كيف ترى حالة الوعي البصري العربية بالمنتج الوثائقى؟.
المنتج الوثائقي : قد يكون فيلما أو برنامجا تلفزيونيا ( ندوة ، توك شو ، برنامج حواري…) وحتى الأخبار …. الخ ، كل ما نقدمه ونسجله يندرج في النهاية تحت التوثيق ، برأيي ، وإن تعددت أشكاله … أنا أتحدث عن الفيلم الوثائقي لخبرتي المتواضعة فيه ( مع اعتقادي بأن ما نصنعه يندرج ضمن الفليم التلفزيوني الراضخ لشروط الإنتاج )
علينا الاعتراف أحيانا بأن المشاهد بات في ذهنه أن الفيلم الوثائقي هو عبارة عن استضافة شخصيات متكرر ظهورها في نشرات الأخبار والتقارير والندوات التلفزيونية لتناقش موضوعيا معينا وتحلله أو تبحث فيه وتقلب وثائقه ، ترافقه الصور كمدخلات للتدليل لا أكثر على الموضوع الذي نتحدث عنه، وهذا ما رسخه ما كان يقدم على الفضائيات من أفلام وثائقية عربية تعتمد في معظمها على ما سبق فتبدو أشبه بالتقارير والتحقيقات التلفزيونية، بينما أرى أن الفيلم الوثائقي ، إذا كنا نتحدث عن الأفلام ، ينبغي التعامل معه كفن له أدواته ومقوماته وعدم إخضاعه لأدوات التلفزيون حتى وإن عرض عليه .
وأعتقد أن الوعي البصري لدى المشاهد ، وبما فيه إدراك لنوعية الصورة وتميزها وحتى طبيعة الموضوع المطروح وأسلوب معالجته ، يتطور يوما بعد يوما في ضوء ما نشهده من ضخامة في الإنتاج يعتمد على الإبهار البصري وتقنيات متطورة في التعامل مع الصورة ، ليس فقط بالنسبة للدراما العربية التلفزيونية وأفلام السينما العالمية التي تعرض على الفضائيات العربية ، ولكن أيضا مقارنة مع ما يشاهده على الفضائيات من أفلام وبرامج وثائقية ذات ميزانيات ضخمة يصل حد الإبهار ،معظمها إن لم يكن كلها إنتاجات غير عربية ، خصوصا بوجود فضائيات متخصصة بتقديم الفيلم الوثائقي .
لذا أصبح المشاهد وتحديدا المتابع للفيلم الوثائقي قادر على التمييز فيما يعرض له، وما يطلبه الجمهور في ظل الزحمة والتسابق بين الفضائيات على تقديم الأفضل للمشاهد، وإن كان في غالبه يعتمد على الربح .
وأنا هنا لا أقر بأن العمل الوثائقي حتى يمتلك مقوماته الفنية والبصرية المتميزة والراقية أن يعتمد على ضخامة الإنتاج ، فالفيلم ذو الميزانية الضخمة ليس بالضرورة فيلما جيدا ، وإن كانت الإمكانات الإنتاجية البسيطة للمواضيع التي تتطلب إنتاجا ضخما تضع صناع الفيلم في مأزق حقيقي بقدرته على تقديم فيلم يوازي ما يشاهده الجمهور العربي من إنتاجات متنوعة .
كيف تنظر للموضوعات المطروقة عربيا في التوثيق التلفزيونى، بمعنى هل هي موجهه ام مستقلة؟ عاطفية ام موضوعية؟ ، فقيرة وقوية في المضمون أم مبهرجة وفارغة المضمون؟ كيف ترى ذلك كمتخصص؟.
أفضل تصنيف نفسي كعامل في هذا المجال أكثر من متخصص معني بالبحث والنقد والمتابعة لما يقدم ضمن مفهوم “التوثيق التلفزيوني”، وما تقييمي سوى انطلاق مما أتعامل معه على أرض الواقع وعلى تماس مباشر معه.
لذا أعتقد ، أن هناك العديد من البرامج والأفلام الوثائقية العربية موجهة وترضخ لسياسات وشروط القناة وفيما ترغب أن تقدمه وتعالجه وتقدم ضمن سياق التنافس بين القنوات ليس إعلاميا فقط بل وسياسيا أيضا وأي توجه أو نظام معين تدعمه القناة ، وبالنسبة للأفلام المستقلة معظمها لا يجد طريقه إلى القنوات بل إلى المهرجانات حتى و إن فاز بعضها بجوائز عالمية تبقي بعيدا عن المشاهد العربي، لذا نفتقر إلى وجود أفلام ذاتية تعكس رؤية صانعيها لواقعهم وللواقع العربي ، فيضطر معظم المخرجين للتعامل مع الفيلم الوثائقي كمنتج للتسليم دون ارتباط حقيقي بالفيلم والذي هو برأيي أداة للتعبير ، أو يضطر للجوء للخارج وللتمويل الأجنبي لأفلامه.
وأرى أيضا أن معظم أفلامنا وبرامجنا ذات القبول لدى المشاهد العربي وتتسابق بعض القنوات عليها تعتمد على العاطفة والبهرجة وأيضا التأطير والتنميط للإنسان العربي بشكل عام،والحكم ليس بالمطلق طبعا ، ولنا مثال في ذلك الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية، بالنسبة لي معظم ما شاهدته هو استنساخ بعضه عن بعض ، والعديد منها أقرب للبكائيات حول الحق الضائع والمسلوب وتكرار لنفس المواضيع ونفس المعالجة والرؤية مع اختلاف الشخوص والأماكن ، بينما الأجدر ، بحسب رأيي ، أن يتم الابتعاد عن تناول الإنسان الفلسطيني وتأطيره بشكل كلي ضمن معطيات القضية وتشعباتها ، وعدم عزله عن الظروف الطبيعية والمكونات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسلوكية المحيطه به، هذا لا يعني تقديمه بمعزل عن قضيته ولكن التقديم لإنسانه أولا حتى وإن بقيت القضية حاضرة فيه و التعامل معها موضوعيا يسهم حتى في تطوير طبيعة الموضوعات التي نريد تقديمها ليس فقط للمشاهد العربي ولكن أيضا للمشاهد العالمي ففي أفلام القضية الفلسطينية نحن معنيين بتقديم معالجة موضوعية وفنية ترسخ مفهوم ما تطرحه معظم هذه الأفلام ك “الحق الضائع ” و ” سنعود يوما ” بعيدا عن العاطفة ، ومهما كانت الأبعاد الإنسانية التي نريد تقديمها فيمكن تقديمها دون بكاء مبالغ فيه .
وأظن أن الذي فرغ العديد من البرامج والأفلام التلفزيونية من محتوياتها هو افتقارنا لمفهوم واضح للفيلم الوثائقي عمليا ومهنيا ، والسؤال الذي يجب أن يطرح هو : لماذا لا نشاهد أفلاما ، حتى وإن كانت قوية في الموضوع ، قوية في الصورة وفيها بناء ونسيج بصري متماسك ؟
فالصورة أبلغ من الكلام وهي لغة الفيلم والموضوع وليس المحلل الذي نستضيفه في الفيلم ، فالصورة هي أساس السينما والتلفزيون .
حدثنا قليلا عن صناعة الإعلام فى الأردن حيث تقيم. تبدو منطقة نشيطة من الخارج.
الحديث عن صناعة الإعلام في الأردن : يشمل وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة والالكترونية ، فإذا إردنا الحديث بشكل عام ، نعم هناك تسابق محموم في الأردن في هذا المجال خصوصا في مجال إذاعات ال FM ، والمواقع الالكترونية ، وبات يلحظ التنوع الذي تقدمه هذه الوسائل بل ومساحة الحرية المطروحة فيها ، وساهم في ذلك إلغاء وزارة الإعلام في الأردن وبالتالي أصبحت التشريعات أسهل وخفت الرقابة المفروضة عليها ، وإن بقيت هذه الحرية، كما أعتقد ، ضمن سياق المنحة أو الهامش الذي تحدده لها الحكومة .
وهناك توجه ملكي ليس فقط بتطوير صناعة الإعلام بل وصناعة الأفلام والسينما وتوجد في الأردن الآن هيئة مختصة هي ” الهيئة الملكية لصناعة الأفلام ” والتي تعمل على تنمية وتطوير قطاع الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في الأردن ، وتدعم العديد من الأفكار ذات العلاقة وتمنح الفرصة للمخرجين الشباب بالعمل على أفلامهم وتقيم الورشات والدورات المختصة وتنظم العديد من المهرجانات وعروض الأفلام المحلية والعربية والعالمية .
بل وأصبح في الأردن جامعات متخصصة بتدريس صناعة الأفلام وما يتعلق بها ، آخرها معهد البحر الأحمر للفنون السينمائية في العقبة، فتجد بوادر نهضة لصناعة إعلامية ، على الرغم من المآخذ عليها ( وهذا ليس موضوعنا ) .
وبالنسبة لصناعة الأفلام والإقبال عليها لا تزال تشوبها الفوضى ، وأعتقد أن ذلك طبيعي كونها لا تزال في البدايات ، وتجذب ” من هبّ ودب ” فترى العديد من الأفلام ، خصوصا الشبابية ، خالية من المضمون الحقيقي المتصل بواقع الأردن و همومه ، معتمدة على التقليد غير المتقن للغرب ومحاكاته ، وتجدها غالبا مقتصرة على فئة دون غيرها ، ولكن تكمن إيجابيتها بكونها وسيلة وأداة للتعبير لهؤلاء الشباب .