محاولة لكسر حاجز الصمت حول أحداث 89

السيد تال، الذي كان يدرس في الاتحاد السوفيتي السابق على نفقة الحكومة الموريتانية، عاد إلى أرض الوطن حاملا شهادته وأحلامه بلقاء أسرته بعد سنين من الغربة لكنه وجد أن لا مكان له في موريتانيا التي أنجبته وربته، فاضطر إلى الرحيل إلى السينغال بحثا عن أسرته التي هُجرت على خلفية أحداث 1989 الموجعة.

نجاي جبريل، كان سنة 89 ضابطا في الدرك الوطني، وهو الآن نائب عمدة مدينة بوغى، يحكي بشيء من الأسف والمرارة كيف عاش تلك اللحظات العصيبة من تاريخ موريتانيا، وكيف رأى بأم عينيه موريتانيين يتم تهجيرهم قسرا إلى السينغال، وهم على رأيه الأكثر حظا، لأن هناك من دفنوا تحت منازلهم، وهناك من سجنوا وعذبوا.. رتبته العسكرية آنئذ لم تسمح له بإنقاذ سوى نفسه وما زال يتحسر على كل ما حدث.

بارا كي، ضابط آخر لم يكن راضيا عن ما حدث تماما مثل نجاي جبريل، الفرق الوحيد أنه تكلم وانتقد وعارض النظام الذي قام بهذا العمل الخطير في حق شعبه، فكان أن أحيل إلى المعاش المبكر وصودرت كل حقوقه.
ما يربط بين هؤلاء الرجال الثلاثة هو أنهم موريتانيون سود وأنهم شهود على أحداث 1989، وقد بدأت الحكاية، الموجعة حينما شبت أزمة دبلوماسية بين موريتانيا وجارتها السينغال، في ظل نظام العقيد معاوية، ونظام عبدو ضيوف السينغالي، هذه الأزمة التي كادت تنتهي بحرب بين الدولتين الجارتين، بل إن الاستعدادات الأمنية كانت على أشدها ووضعت القوات على أهبة الاستعداد القصوى، وتجمهرت على ضفتي نهر السينغال الذي هو الحدود الطبيعية بين البلدين. وكان طبيعيا أن يتم تهجير كل الموريتانيين في السينغال وهي جالية كبيرة تشتغل في التجارة.

وكان الرد الموريتاني بالمثل، لكن المشكلة أن الموريتانيين غير متجانسين عرقيا عرب، بربر، وأفارقة سود.. فكان أن اختلط الحابل بالنابل، وتم التنكيل عن غير قصد في أغلب الأحيان وعن قصد وسبق إصرار أحيانا بكل من يملك بشرة سوداء ولا يتكلم العربية بطلاقة حتى ولو كان يحمل الجنسية الموريتانية.. وبدا أن الانفلات الأمني سيد الموقف وراح ضحية هذه الأحداث قتلى وجرحى ومهجرون، رفضت السينغال استقبالهم على اعتبار أنهم ليسوا من رعاياها، ورفضت موريتانيا إرجاعهم بعد انتهاء الأزمة على اعتبارات متعددة أرجعها البعض إلى العنصرية في نظام ولد الطايع والتمييز بين أفراد الشعب الموريتاني وأعراقه، وأرجعها البعض لأسباب سياسية بحتة بينما رأى فيها آخرون وهم قلة أمرا مبررا لأن الحصول على الجنسية الموريتانية في تلك الفترة لم يكن بالأمر الصعب وأن غالبية السنغاليين خصوصا على ضفة نهر السينغال يحملون الجنسية الموريتانية؛ الأمر الأكيد أن موريتانيا بعد فعلتها الشنيعة هذه لم تحاول أن تصحح الخطأ إلا بخطأ آخر وهو التجاهل الكلي لمطالب العودة إلى الديار وإرجاع الحقوق.

مخرج الفيلم جبريل جياو

ورغم أنه تم حل المشكلة سياسيا بعد رحيل نظام ولد الطايع إلا أن الجرأة على الحديث عنها ما تزال غائبة، خصوصا في السينما ويأتي اليوم جبريل جياو، 27 سنة شاب موريتاني من عرق أسود، ليتطرق إلى هذا الموضوع وخصوصا من الجانب النفسي والآثار النفسية المترتبة عليه، ويناقش بعد عشرين سنة من هذه الأحداث المؤلمة، كيف عاش أشخاص من مختلف الأعراق الموريتانية، عربا وأفارقة، كيف عاشوا هذه اللحظة وما هي ذكرياتهم حولها، وينبش في ذاكرة ذالك الطفل ذي السبع سنوات الذي كأنه يوم اقتادت الشرطة والده إلى السجن بتهمة أن لونه أسود يقول جبريل، ويضيف ” أحاول من خلال هذا الفلم تتبع الحقائق ورصد بعض الذكريات بعد عشرين عاما لئلا يظل الموضوع في خانة التابوهات”
جبريل يصور شهادات  نساء، ورجال، وشباب كانوا أطفالا إبان تلك الأحداث، ويرسم بالكاميرا لوحة ما قبل 89 ويحاول أن يفهم كيف يتحول ذلك التعايش الإيجابي والسلمي بين مختلف المكونات الإثنية في موريتانيا من نقطة قوة إلى كارثة ما تزال آثارها قائمة.
الفلم الذي يصور هذه الأيام وثائقي من 52 دقيقة،  إنتاج مؤسسة دار السينمائيين الموريتانيين، وسيشارك في النسخة الرابعة من مهرجان الأسبوع الوطني للفلم نهاية أكتوبر القادم.  


إعلان