أضواء حول المشاركة العربية في مهرجان فينيسيا

ما الذي حدث؟

أمير العمري- لندن

بعد دورة العام الماضي تعرض ماركو موللر مدير مهرجان فينيسيا السينمائي لأكبر حملة انتقادات يتعرض لها مدير أحد المهرجانات السينمائية الكبرى في العالم.
وقد بدأت الانتقادات بعد أن انقضى الأسبوع الأول من المهرجان، أي بعد أن اتضح فراغ برنامجه ورداءة اختياراته خصوصا لأفلام المسابقة، وقد وصلت الانتقادات حد أن نشرت الصحيفة اليومية التي توزع رسميا على الصحفيين والنقاد الحاضرين من طرف مؤسسة المهرجان نفسها، وهي الوحيدة التي تصدر في المهرجان، مقالا يوجه عبارات قاسية لمستوى الاختيارات ولماركو موللر وفريقه، ويصف المهرجان بأنه أصبح مثل “القمامة”. وكان هناك في النهاية اجماع بين الإعلاميين والنقاد على اعتبار دورة العام الماضي “كارثية” بكل الأبعاد.
وقد انتقلت الانتقادات بعد ذلك إلى الصحافة الايطالية، ونقل المعلقون ما يفيد أن لجنة التحكيم كادت أن تحجب الجائزة الكبرى بعد أن فشلت في العثور على فيلم يستحقها. لولا أن فيلم “المصارع” الذي جاء كقارب الانقاذ عندما عرض في اليوم الأخير من المهرجان.
خلاصة القول إن ماركو موللر وجد نفسه في مرمى النيران، من الداخل ومن الخارج، بل وارتفعت في إيطاليا بعض الأصوات التي تطالب بإقالته من منصبه، وكانت إدارة بينالي فينيسيا الدولي (المؤسسة التي تشرف على مهرجان السينما إلى جانب تظاهرات أخرى) قد جددت عقد موللر لأربع سنوات أخرى.
هذا العام ينتفض موللر لكي يعلن أكثر البرامج التي عرفها مهرجان فينيسيا طموحا منذ نحو ربع قرن، أي منذ عهد جوليمو بيراجي، فيعود فينسيا، ليس فقط بمسابقة تشير معالمها الأساسية إلى قوة مستوى أفلامها، بل وبأكبر عدد من الأفلام داخل وخارج المسابقة، في تنوع مثير، يتضمن عددا من أبرز الأسماء في السينما شرقا وغربا، ويجعل المهرجان أيضا ساحة حقيقية للمنافسة، ولعرض مختارات من السينما الإيطالية، ويفتح المجال بدرجة كبيرة للمرة الأولى منذ سنوات، أمام المشاركة الأمريكية (6 أفلام في المسابقة وحدها منها الفيلم الجديد الوثائقي لمايكل مور).
على صعيد السينما العربية، لعل من أبرز الانتقادات التي واجهها موللر العام الماضي كانت من طرف بعض النقاد العرب الذين مازالوا يصرون على حضور المهرجان بعد أن انفض الإعلام العربي من حوله منذ سنوات وجعلوا الأولوية لمهرجان “كان”.


ماركو موللر 

كاتب هذه السطور أجرى لقاء مباشرا مع موللر، وجهت إليه خلاله تساؤلات واضحة حول تجاهل السينما المصرية بعراقتها وإنتاجها الكبير الذي يوازي حجم الإنتاج في عدد من دول أوروبا الغربية مجتمعة باستثناء الدول الكبرى سينمائيا أي (إيطاليا وبريطانيا وفرنسا) ولاشك كذلك، في أنها تنتج عددا من الأفلام ترقى إلى مستوى المشاركة في فينيسيا قياسيا بما نشاهده من تايوان وكوريا والصين وغيرها عاما بعد عام، وذكرت تحديدا فيلم “خلطة فوزية” متساءلا عن السبب الذي دفع المهرجان إلى استبعاده من برنامجه الرسمي رغم معرفتي بأنه أرسل إلى لجنة المشاهدة في الموعد المحدد، وتلقى مخرجه تأكيدا شفويا بمشاركته.
واالواضح أن موللر عادة ما ينحاز لأفلام جنوب شرق آسيا بحكم معرفته بلغاتها وثقافتها، وقد قلت له بوضوح إن مهرجان فينيسيا منذ سنوات، يبدو مكتفيا بعرض فيلم واحد سنويا من الأفلام التي تمثل بلدان المغرب العربي وإن كانت في الأغلب الأعم، من الإنتاج الفرنسي، وأضفت: “وكأنكم تقولون إنه ما لم تكن هناك فرنسا في الإنتاج فلا أمل أمام الأفلام العربية في المشاركة”!
وقد اعترف موللر بالتقصير، وأرجع استبعاد الفيلم المصري إلى عدم فهم مساعديه له رغم إعجابه الشخصي به، وتعهد في المقابلة المسجلة بتوجيه اهتمام أكبر إلى أفلام “المشرق” العربي، وقد استخدم الكلمة العربية في حديثه.
وعاد زميلي الناقد الصحفي عرفات رشيد فوجه أسئلة إلى موللر في مقابلة خاصة أجراها معه ونشرت في صحيفة “الحياة”.
وقد أطلعني موللر على أن المهرجان تعاقد لمدة 4 سنوات من العام الماضي مع درة بوشوشة، مديرة مهرجان قرطاج حاليا، على أن تكون مندوبة المهرجان التي ترشح له الأفلام من المنطقة العربية، وعندما أشرت إلى غياب فيلم “عين شمس” مثلا عن المهرجان رغم معرفتهم به، قال إنهم لم يعلموا بالفيلم إلا بعد حصوله على الجائزة الكبرى من مهرجان تارومينا وإن الوقت كان قد تأخر، وقد صحح لي مخرج الفيلم ابراهيم البطوط رواية موللر عندما أكد لي، في رسالة بعث بها ونشرت في حينها، أن الفيلم كان قد أرسل إلى موللر شخصيا قبل أن يذهب للعرض في تاورمينا.
ولاشك أن هذه الضغوط، واهتمام السينمائيين المصريين والعرب عموما بإرسال أفلامهم هذا العام لعب دورا أساسيا في اختيار ثلاثة أفلام مصرية في فينسيا، منها فيلم “المسافر”، العمل الأول للمخرج أحمد ماهر، داخل المسابقة، أما الفيلمان الآخران فهما “واحد صفر” للمخرجة كاملة أبو ذكري الذي سيعرض ضمن قسم “آفاق”، و”إحكي ياشهرزاد” ليسري نصر الله الذي سيعرض خارج المسابقة. وهو رقم غير مسبوق في أي مهرجان سينمائي كبير.
ولعل من الضروري الإشارة إلى أنه عندما كانت السينما المصرية، خلال عقد الثمانينيات، تنتج عددا أكبر من الأفلام الفنية المتميزة لمخرجين مثل محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب وداود عبد السيد و رأفت الميهي ويسري نصر الله أيضا، لم يحدث أن أختير أي من أفلام هؤلاء للعرض داخل أو خارج مسابقة فينيسيا، فما الذي حدث؟
باختصار شديد هناك هذا العام رغبة في الاهتمام بسينمات أخرى بعد أن فشلت الاختيارات السابقة في العام الماضي، في “تشريف” صاحبها المنحاز تقليديا إلى سينما جنوب شرق آسيا.

وهناك الضغوط التي مورست على موللر بشكل مباشر. ولاشك لدينا أيضا أن أحد عوامل اختيار فيلم “المسافر” في المسابقة يعود في جانب منه إلى كون أحمد ماهر مخرجه، درس السينما في ايطاليا، ويعرف اللغة الايطالية، بل وقام باستكمال العمليات الفنية للفيلم في المعامل الايطالية، وقضى فترة من الوقت في روما يجري اتصالات مكثفة لضمان دخوله مهرجان فينيسيا.
وليس من المستبعد أيضا أن يكون وزير الثقافة المصري، المعروف بصلاته العديدة في إيطاليا، وقد قضى فترة من حياته فيها عندما كان مديرا للأكاديمية المصرية للفنون، قد استغل صلاته القوية بالأوساط الثقافية الإيطالية، وتحديدا بالبينالي الدولي للفنون في فينيسيا، من أجل إقناع المهرجان بقبول فيلم “المسافر” الذي يعد الفيلم الأول الذي تنتجه وزارته، أي وزارة الثقافة المصرية، منذ توقفت تجربة “مؤسسة السينما” الحكومية في أوائل السبعينيات. 
لكن الأفلام المصرية الثلاثة ليست وحدها في فينيسيا، فهناك الفيلم التونسي “أسرار دفينة” لرجاء عماري، وسيعرض ضمن قسم “آفاق”، والفيلم الجزائري (بتمويل الفرنسي)”حراقة” لمرزاق علواش الذي سيعرض ضمن “أيام فينيسيا”.
هذه المشاركة البارزة داخل وخارج المسابقة، تستحق التوقف بعد ذلك أمام الأفلام نفسها لاختبار مستواها ومدى قدرتها على التعبير عن ثقافتها وواقعها ورؤى مخرجيها، وما إذا كانت على مستوى المنافسة في كبرى المهرجانات السينمائية.


إعلان