بين أورويل ورادفورد
“1984” فيلم ينافس الرواية دون التخلي عنها
يامن محمد
رواية 1984 جورج أورويل، حققت بالفعل وإلى حد بعيد الفكرة التي طرحتها والقائلة: من يتحكم بالماضي يتحكم بالمستقبل ومن يتحكم بالحاضر يتحكم بالماضي”، فهي رواية من الماضي وضعت نفسها وبقوة في المستقبل، كأن أوريل وضع نفسه أيضاً أمام هذا التحدي، وهكذا تكون الرواية صلة الوصل بين سنوات الأربعينات وقت إنجازها ونشرها، وثمانينات القرن العشرين، الفترة التي حاول أورويل تخمينها، لا بل وما تلا ذلك وحتى يومنا هذا، إنها رواية أثبتت نفسها عبر تحد تاريخي، وقد نجحت في ذلك إلى حد لم يكن أورويل ذاته ليتوقعه، حيث كان عليه ليعاين ذلك النجاح أن يعيش أربعين أو خمسين سنة أخرى.
والفيلم الذي كتبه وأخرجه “مايكل رادفورد” عن الرواية كان عليه أيضاً أن يجاري ذلك التحدي ويواصل الطريق فيه ليثبت نفسه سينمائياً عبر مهام شاقة أولها يكمن في عدم الاتكاء على نجاح الرواية التي أصبحت تعابيرها فيما بعد من ضمن المصطلحات الشائعة في اللغة الإنكليزية والمشهورة في كافة أنحاء العالم مثل “الأخ الكبير Big brother” ، “التفكير المزدوج Doublethink” ، “شرطة الفكر Thought police” وهي الرواية المترجمة إلى أكثر من 60 لغة، هي مشكلة كغيرها من المشاكل التي تواجه التجارب السينمائية عند محاولتها التعامل مع الرواية وتجسيدها: حيث يبدو الفيلم في العادة وكأنه يماشي الرواية الأصلية، فينخفض مستوى التماسك في الفيلم، وتضيع منه الكثير من المفردات السينمائية والجذب الخاص بفن السينما كما هو الحال في فيلم الشيخ والبحر عن رواية “همنغواي” ولقد شاهدنا أيضاً تجربة فيلم “العمى” عن رواية “ساراماغو” وهو الفيلم الذي خرج بطابع “أمريكي” ذهب بالرواية بعيداً عن معناها وخصوصيتها شديدة الغرابة وشديدة الحساسية، أما أن يكون هناك فهم خاطئ أو منقوص للرواية فهو ما لوحظ في فيلم العطر عن رواية “زوسكند” وقد أضاعت التفاصيل الخاطئة الكثير من المحاور الكبيرة والأفكار الهامة التي قرر زوسكند معالجتها، وهذا غالباً ما يضر بالفيلم ذاته بمعزل عن ارتباطه بالرواية الأصل وبغض النظر عنها.
![]() |
لقطة مركبة للمؤلف(يمين) والمخرج |
أما فيلم 1984فعلى ما يبدو تريث مخرجه وكاتبه كثيراً قبل الشروع في العمل السينمائي، وقد أدرك أنه أمام مهمة إبداعية جديدة وضعته الرواية ذاتها في مواجهتها بثقلها التاريخي. لقد حافظ المخرج من خلال عملية الاختزال التي مارسها على الرواية على جوها ومناخها العام وعلى التماسك عن طريق الإبقاء على “نقاط العلام” على طول الفيلم.
مناخ من الرعب وسيطرة الرقيب المحيط بكل أفعال الشخصيات، فمنذ البداية نشاهد في المشهد الأول تلك النظرة الخاطفة من “أوبرين” لجوليا أثناء مشاهدة الجموع ل”دقيقتي الكراهية” وأوبرين هذا هو من سيكون فيما بعد جلاد”جوليا” و “ونستون” بطل الرواية، ذلك الأربعيني النحيف الذي لا يزال يحتفظ بنبض الحياة “كآخر رجل في أوروبا” وهو التعبير الذي عنون به أورويل روايته قبل أن يتحول العنوان إلى 1984.
نظرة أوبرين تلك هي التي كشفت آخر من لم يخضع لنظام سائد في مجتمع تحول أعضاؤه إلى ما يشبه الحيوانات؛ فنظرة الرقيب تلك تعني في وضع مماثل أنك انتهيت، وقضي عليك، في حال أصابتك النظرة. وهو ما حاول أورويل الدلالة عليه بعبارة “الأخ الكبير يراقبك” وهو ما جسده الفيلم من خلال الصور الكبيرة للأخ الكبير المتواجدة في كل مكان، وتواجد جهاز “التلسكرين” الذي أصبح جهاز التلفزيون المقابل الأقرب له في الأيام التي قصدها أورويل فيما بعد؛ إنه جهاز يخترق كل الحواجز للوصول إليك، ليس ليبث إليك تعاليمه وتوجهاته، بل وليراقبك أيضاً دون أن يكون لديك الحق أو القدرة على إطفائه، وهذا هو ربما أخطر ما تنبه إليه أورويل وتنبأ به: “السوط” الإعلامي الجديد، الابتكار التكنولوجي الأمثل لجلد الإنسان وإخضاعه. ولكن في الوقت نفسه لم ينحرف المخرج نحو تصوير التلسكرين على أنه التلفزيون الحالي وقد أصبح معروفاً بالنسبة إليه التقارب بين الشيئين، بل بقي جهاز “متخيل” له وظيفة محددة تماماً بمواصفات معينة لا تنطبق تماماً على جهاز التلفزيون.
وهكذا أبقى المخرج أيضاً، على أحداث التعذيب الممارس على ونستون مظهراً بشاعتها، مترافقة مع الإخضاع النفسي والفكري الذي مارسه أوبرين على سجينه، فتبقى مشاهد التعذيب أقوى المشاهد بالإضافة إلى مشاهد الحب بين ونستون وجوليا الضحية الأخرى لأوبرين، وبهذا المعنى يكون الحب آخر الأسلحة في مواجهة القمع وآخر أسلحته التعذيب الجسدي في الغرفة101 وهنا اشترك الفيلم مع الرواية في حسم النتيجة لصالح القمع فيتحول حب ونستون من جوليا التي تخلى عنها قسراً ورعباً من الجرذان الجائعة وبعد التطويع البطيء، نحو الأخ الكبير بكلمة “أحبكَ”.
![]() |
ربما كان من أهم مميزات هذا الفيلم، عدم تأثر صانعيه بما عايشوه من صراعات حقيقية في العالم في ثمانينات القرن الماضي، وعدم التطرق إلى أي إشارة مباشرة للواقع الفعلي، ولصراع بين شرق وغرب إلا بما افترضته الرواية، والخيال الفني والفكر المجرد العالي، على الرغم من أن الرواية تغري بالتورط فيما يشبه هذا الانزلاق. وليس خفياً على أحد تلك التشابهات التي استقاها أورويل ذاته من الواقع، من الفترة الستالينية في الاتحاد السوفييتي، والحرب العالمية الثانية. إلا أن القضية حقاً ليست في توجيه نقد أو لوم إلى شخص أو نظام بعينه بل هي قبل كل شيء رؤية واستشراف تاريخيين، يخص العالم بأسره، كإشارة تحذير وتذكير بإنسانية الإنسان.