فيلم “جدل”…الفن مقابل الحصار
محاولة للخروج من دائرية الواقع
غزة _ أسماء شاكر
لم تكن غزة وجهاً واحداً من حصار، فهي لا تزال جغرافيا متكاملة َ التاريخ، بكل ما تعاصره من تغيرات آنية ومتأصلة، تتجه نحو رؤية أكثر واقعيةً للذات والآخر، ولكن .. بمستقبل مجهول يمتلئ بالمفاجآت.
الإيقاع الزمني السريع لتلك المفردات المتغيرة، أصبح نسق حياة _ غير منطقي _ للفنانين و الكتاب الغزيين، بمعاناتهم اغتراباً مزمناً مع المكان، واشتباكهم بتفاصيل لا حصر لها مع الواقع الذي يحاولون تجاوزه لمناطق منعزلة .
لكن حالة الصراع الكامنة فيهم، لا تنفك عن كونهم مغرقين بالواقع حتى فنهم، وهو ما يعيدهم للجدل الأول بين روح الحياة و مادتها .
أما “الجدل” الذي يقصده المخرج الفلسطيني فائق جرادة في فيلمه الجديد، فهو تلك الحالة التي تتناقض فيها المتناقضات مع بعضها البعض دياليكتيكياً، فتتناظر أحيانا، وقد تتداخل وتختلف مع حقيقة الواقع في أحيان أخرى، لكنه يبقي جدالاً بين قراءات و أفكار نسبية عن كيفية التعايش مع الحياة.
![]() |
المخرج فائق جرادة
الواقع .. عامل مشترك !
الفيلم الذي يرتكز على حوارات من طرف واحد ، بين المخرج و عدة شخصيات يرافقها، يتوغل في انعكاسات الواقع على الحالة النفسية و الحياتية علىهم ، وكيف تغيرت مساراتهم بعد الحصار.
حيث لا تقتصر الشخصيات على طبقة بحد ذاتها فقط،، وإنما تتنوع بشكل يبدو عشوائيا للوهلة الأولى، لكنه سرعان ما يتحدد، فالجميع يتقاسمون المرارة بأشكال مختلفة.
فالسائق يستذكر ” أيام العز” الماضية بحنين، عندما كان العمل أكثر وفرة وغناء، خاصة في فترة الاعتماد الاقتصادي على ” إسرائيل “.
أما الطلبة و الخريجون، فيسقطون في هاجس البطالة والهجرة إلى أوربا، حيث تحتد النقاشات بين مؤيدي الهجرة من الشباب العاطل عن العمل والأمل، وبين رافضيها، وهي إحدى أفكار الفيلم الرئيسية ، بعد استعراض عدة تعليقات قصيرة لكل من المهندس والصحفي والفنان والكاتب، والتي تبدو أكثر وعياً في استقراء الوضع العام في غزة.
ورغم عدم وضوح المنحني السردي للفيلم في بدايته ، إلا أن المخرج سرعان ما بدأ بحبك قصص بعض الشخصيات بذكاء، منتقلا بين عدة أفكار،كالصراع الذي يعانيه المخرج المسرحي : سعيد البيطار، وإحساسه بالتغييب القصري لوجوده ولفنه ، ومحاولته اليائسة للدفاع عن أفكاره بالمسرح، في خضم اغترابه، و كذلك اتجاه الممثلة : إيناس السقا ، نحو محدودية العطاء في الإبداع ، نتيجة للممكن
المحدود .
ومن ثم، ينتقل المخرج بإيلام و تكثيف أكثر حدة عبر شخصياته للحديث عن الحرب، دون إغفاله للعاطفة الإنسانية التي وجدت نفسها وجهاً لوجه مع الموت، أثناء الحرب .
كما لم يقفز المخرج عن الواقع السياسي الداخلي وتأثير الانقسام الموجع، وهو ما ارتد على الفنان بالإشكالات البيروقراطية للسلطة السياسية، أيا كان اتجاه تعصبها.
الخروج من الدائرة
تقنية “جدل” اعتمدت على الحركة المتنقلة “الدائرية” بين الاختلافات والآراء والقصص، إضافة إلى تعدد أماكن الشخصيات، ما أوجد إثراءً بصريا للمقابلات، أما دائرية الفيلم، فما تلبث أن تنتهي في نقطة لم يتوقعها المشاهد، لتكتمل حبكة النص السردية على حين غرة، في شكل نهاية “جدلية أيضا ” ، تنتصر لمبدأ الحياة المتحايل على قسوة الواقع، و قدرته تحقيق الأحلام.
فالصحفي محمد الغريب (أحد شخصيات الفيلم الرئيسة) يتمكن بعد عامين، من الزواج بخطيبته الكندية ليندا، والتي تعرف عليها عبر الانترنت “محَاصراً ” ، دون أن يراها ، و إزاء محاولاته الفاشلة لتخطي المعابر المتربسة والحدود للوصول إليها، قررت ليندا المجيء إلى قطاع غزة مع وفد أوربي، حيث ترقبت كاميرا الفيلم انتظار محمد لليندا على المعبر، ولحظة وصولها التي تحولت إلى عرس عفوي للفرح على الحدود، والكل من احتفى بتلك اللحظة .
![]() |
لقاء محمد بخطيبته الكندية ليندا
الفيلم الذي لم تتجاوز مدته النصف ساعة، تُرجم إلى اللغة الفرنسية، وتم عرضه في سلسة المراكز الثقافية التابعة للقنصلية الفرنسية في العديد من المدن، ضمن برنامج لعرض الأفلام الفلسطينية القصيرة .