نزوات ماريان : تجربة ذاتية لمهاجر يحمل كاميرا

الفيلم التسجيلي الطويل للمخرج كمال شريف..

صلاح سرميني ـ باريس

“ماريان”، هي الاستعارة الرمزية للجمهورية الفرنسية، وقيمها الواردة في شعار “الحرية ، المُساواة، والإخاء”.
مع ذلك، ومنذ أن خرجت فرنسا من مُستعمراتها القديمة، واستقطبت ملايين المُواطنين لضخّ أسواق العمل بهم، فإنها تُعاند في نزواتها مع هذه القوة الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية المُعتبرة التي جعلتها تتباهى بتعدديتها، وبالأخصّ سينماها المُنفتحة على مواهب من أصولٍ أجنبية يمنحوها أشكالاً، وموضوعاتٍ جديدة، ومُتجددة تجعلها صامدةً في مواجهة سُلطة السينما الأمريكية، وسيطرتها على الأسواق العالمية.

المخرج كمال الشريف

المُتابعون للسينما، يعرفون “كمال شريف” من خلال فيلميه القصيرين : عيد الميلاد الأول (1999)، وعلامة انتماء (2004)، ويؤكدون على موهبته السينمائية التي توّجتها جوائز عديدة في مهرجاناتٍ عربية، وعالمية.
وقد تخيّر في إخراجه المُشترك مع “فرانس بونيه” عنواناً دلالياً لفيلمه التسجيليّ الطويل : “نزوات ماريان” (57 دقيقة)، يقدم فيه وجهة نظرٍ تعكس مرارة التجربة المهنية التي عاشها، ويمزجها مع الحالة الانتقائية، التهميش، والتجاهل  الذي تُمارسه فرنسا حيال المهاجرين، أو الفرنسيّين من أصولٍ أجنبية.
بأسلوبٍ صادمٍ (يُذكرنا بأفلام الأمريكيّ “مايكل مور”)، يتتبع “نزوات ماريان” مسيرة فيلمه القصير “علامة انتماء” الذي حاز على جائزة أفضل فيلمٍ قصير في الدورة الـ61 لمهرجان فينيسيا عام 2004، وعلى الرغم من ذلك الاعتراف الدولي، لم يُعرض حتى هذا التاريخ في أيّ قناةٍ حكومية فرنسية، ويُعتبر هذا الرفض من طرف مُبرمجي التلفزيون نقطة البداية، ومحاولةٌ لفهم أسباب “الحصار”.

جائزة مهرجان فينسيسيا

في فيلمه “نزوات ماريان”، يستطلع “كمال شريف” شخصياتٍ سياسية (الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، رئيس الوزراء الأسبق دومنيك دو فيلبان،.. )، علماء اجتماع، صحفيين، مُحللين نفسانيين، وفنانين (المُغني الفرنسي من أصلٍ أرمينيّ شارل أزنافور، مدير التصوير السويسريّ ريناتو بيرتا،..)، وآخرين حول تاريخ المُؤسّسات، والقيّم الجمهورية، وتُجسّد تلك الانتقالات الواثقة، والضرورية وأصداء النقاش الذي عبّر، وما يزال يعبر عن المجتمع (التميّيز الإيجابي، مُبادرة الجمهورية للدفع نحو الأمام، تمثيل الأقليات، تعزيز المُساواة في الفرص)،.. ويمنح منظوراً تاريخياً، وعاطفياً لـ “فرنسا الاختلافات”.

أنا.. ليسَ أحدا آخر…
نادرةٌ جداً تلك الأفلام التي تعود إلى فيلمٍ سابقٍ لنفس المخرج ليكون ركيزةً لتساؤلاتٍ جديدة، يبدأ الفيلم بحدثٍ مُبهج ليلة إعلان جوائز الدورة الـ61 لمهرجان فينيسيا عام 2004، “كمال شريف” إلى جانب المخرج الأمريكي “سبايك لي”، وآخرين يعبرون السجادة الحمراء في خطواتهم الأخيرة نحو قاعة العرض، والإعلان عن حصول فيلم “علامة انتماء” على الجائزة الكُبرى للفيلم القصير، ومن ثم مقاطع منه، يعقبها تصفيق الحاضرين من صانعي السينما العالمية.
وهو يستلم جائزته، ينتهز الفرصة للتعبير عن إعجابه بالسينما الإيطالية، وخاصةً الفيلم الروائي “خبز، وشوكولاطة” (إنتاج عام 1972، وإخراج فرانكو بروزاتي)، ويعود في كلمته المُتأثرة بالفرحة إلى طفولته عندما حمله والداه من أرض أجداده، ووضعه القدر في فرنسا بدون أن يطلب أحدٌ رأيه، ومنذ تلك اللحظة، يتحتمّ عليه دفع ثمن ولادته “هناك”، وكأنها أصبحت “علامةٌ” منقوشةٌ على الجبين.

“يُعبّر الأجنبي عن نفسه عن طريق الضحك، لأنه لا يريد البكاء دائماً”.

وكما ضحك المُتفرج بسعادةٍ عندما شاهد فيلميْه القصيريْن، فإنه لا مكان للبكاء في “نزوات ماريان” الذي يكشف عن لغةٍ مُزدوجة لصانعيّ القرار السينمائيّ، والسياسي حيال المهاجرين، يجعل المتفرج يبتسم، أو يضحك عندما يسمع تصريحاتٍ، وتبريراتٍ خشبية من هذا، أو ذاك، ما يدفعه للتعاطف، والتماهي مع شخصية المخرج الحاضرة بقوةٍ في الفيلم، والشعور بالزهو، والافتخار لأنه استطاع الدخول مع كاميراته إلى مؤسّساتٍ، ومكاتب شخصياتٍ في قمة السلطة، يعترف كلّ واحدٍ منهم ضمنياً، أو علنياً بالخطأ أو الأخطاء المُرتكبة بحقّه كسينمائيّ، وغيره من الملايين الذين يصنعون فرنسا، وعظمتها في كلّ لحظةٍ من حياتهم .
بثقةٍ، تتبع الكاميرا “كمال شريف” في أروقة مهرجان فينيسيا مُبتهجةً بتلك الجائزة، تلتقي مع الضيوف من السينمائيين المُحترفين، والشخصيات الثقافية، ومنها وزير الثقافة الفرنسي السابق “رينو دينوديه دو فابر”، ولا تخفي اللقطات المُتوسطة تأثره بكلمات الإطراء التي ينثرها على مسامعه “نعوم كليمان” مدير سينماتيك موسكو.
منذ البداية، تبدأ التساؤلات لمعرفة أسباب إغلاق الأبواب أمام فيلمه “علامة انتماء” تمويلاً، وتوزيعاً، وعرضاً من طرف القنوات الحكومية الفرنسية.

فيلم “علامة انتماء”

وينتهز فرصة اللقاء مع “دافيد كيسلر” أحد المسؤولين الكبار في السينما الفرنسية، ويُذكره بأنه استطاع إنجاز فيلمه بفضل مملكة بلجيكا.
وفي باريس، يبدأ “كمال شريف” تحقيقه النشط مُستخدماً المكالمات الهاتفية مع المسؤولين، ولا تخفي تساؤلاته نبرة الغضب، ولا يخشى التعبير عن رأيه بجرأةٍ لا تتوفر عند آخرين.
تتكرر لقطات المترو كلازمةٍ بصرية، وانتقالية من فترةٍ إلى أخرى، وكأنه يبحث عن الأماكن، ويحلّ ألغاز تقاطعاتها، ليكشف حقيقة الواقع الذي يعيشه، ولا يُنسينا مطلقاً بأنه ممثلٌ أيضاً في فيلمه، ولهذا يتأرجح البناء الفيلميّ مابين اللقاءات المُغلفة بأسلوبٍ صحفيّ مُتعمّد، ولقطاتٍ خارجية عامة يتجول في شوارع باريس، يتنفس هواء حريته الإبداعية، واستقلاليته، تسمح له، ولنا بالتفكير، والتأمل، وصياغة وجهات النظر المُختلفة .
لا يملّ المخرج من اللقاءات مع شخصياتٍ مُتعددة في الوسط السينمائي، والأدبي .

“فرنسا تصف نفسها بأنها تشبه رينوار، وهي في الحقيقة تشبه بيكاسو”.
يستخدم الرسائل التي تصله من التلفزيون الفرنسي الحكومي، ويقرأ ردود الاعتذار عن شراء حقوق عرض فيلمه الحاصل على الجائزة الكبرى في مهرجان فينيسيا :“واحدٌ من المسؤولين منفتحٌ على كلّ شيئٍ، ماعدا أفلامي”.

وفي أحد المشاهد، يُعبّر عن رؤيةٍ مُستقبلية خطيرة، تُلخص حال المهاجرين في فرنسا، ويعتقد بأنّ هؤلاء الذين يعانون من الضغوطات، ومصادرة تاريخهم، وإمكانية سرده، واعتبارهم مخلوقاتٍ لا إنسانية، ونماذج من الديكتاتورية، “هم بمثابة قنبلة موقوتة سوف تنفجر خلال سنوات”.

إحدى مظاهرا المهاجرين في فرنسا

اللقاءات التي تحدث غالباً في أماكن داخلية، تجمع في لقطةٍ واحدة “كمال شريف” مع الشخصية التي يتحاور معها، وتمحي الفوارق بينهما، هما على الشاشة يمتلكان نفس الأهمية، ويتشاركان في إنسانيتهما.
جولات المخرج في الشوارع ليلاً، ونهاراً، يطرح الأسئلة على نفسه، والآخرين، تمنح توازناً ما بين الداخلي، والخارجي، الخاصّ، والعامّ، حيث تتوّسع المُشكلة الشخصية كي تشمل تساؤلاتٍ عامة، ويتجسّد ذلك بمُتابعة المُؤتمرات، الندوات السياسية، المُظاهرات، والاحتجاجات المُتعلقة بالمهاجرين، إنه في قلب الأحداث يراقب بعين السينمائيّ اليقظ.
وبعودته إلى فيلمه القصير “علامة انتماء”، يُذكرنا بالطفل “علي” المُختلف عن الآخرين حتى في ذلك الجزء المُقتطع من عضوّه الذكريّ.
ومع ذلك، يُلخص أحد المسؤولين تحفظاته على سيناريو الفيلم الطويل الذي يبحث “كمال شريف” عن تمويلٍ له :
“في الحقيقة، تيمة الطهارة تُزعجني”.
مع أنّ الصورة الغربية النمطية تُفضل موضوعاتٍ كهذه.
الباحثة “لوسيل شميت” تُفسّر ما يحدث في فرنسا بـ “العنصرية اليومية العادية”،…وتصل في تفسيراتها بأنّ النظام الفرنسي “يُصادر إمكانية الوصول إلى السلطة”.
من مكاتب المُؤسّسات الكبرى، والوزارات، ينزل المخرج إلى الشارع، ويلتقي مع مواطنين من أصولٍ أجنبية، ومنهم الكاتب الفرنسي من أصلٍ إيطاليّ “كافانا”، ومنذ اللقاء مع السيدة الايطالية بائعة الكستناء المشوية أمام حديقة اللوكسمبورغ، يهدأ “كمال شريف”، إنها مهاجرةٌ مثله، وليست صاحبة قرار، وكمُواطنةٍ فرنسية تمتلك الحقّ بإدلاء رأيها كما تشاء.

كمال شريف امام صورة ديغول

عندما يستعرض الصور المُعلقة على سياج جدران الحديقة، يقف لحظاتٍ أمام صورة الرئيس الفرنسي الراحل “شارل ديغول” مُؤسّس الجمهورية الخامسة، ولا يخفي وجهه تساؤلاتٍ ضمنية : كيف وصلنا إلى هذا الحال؟
وفي إحدى المكتبات، يتوقف عند جملةٍ من إحدى رسائل الشاعر الفرنسي “أرثور رامبو” :
Je est un autre  (أنا، ليسَ أحداً آخر) رُبما تُلخص فكرة “الانتماء” التي يؤكدها في فيلمه، وينتزع من أصحاب القرار مشروعيتها، هو الذي عاش طوال حياته في فرنسا، ويؤدي واجباته كمواطنٍ، ومن المنطقيّ بأن يطالب بحقوقه التي تقف “النزوات الفرنسية” حيال الحصول عليها كاملةً، وتتوّخى بأن تجعله شخصاً “آخر”.
المُغني الفرنسي من أصلٍ أرمينيّ “شارل أزنافور” يقول له جملةً دالة :
“الأبواب ليست مفتوحة في فرنسا، ولكنها ليست مُغلقة”.
وفي اللقاء مع السيدة “فيرونيك كايلا” مديرة المركز الوطني للسينما، يعود “كمال شريف” إلى قضيته الشخصية.
كان “كمال شريف” ممثلاً في فيلميّه القصيرين “علامة انتماء”، و”عيد الميلاد الأول”، وهو حاضرٌ أيضاً في فيلمه التسجيليّ “نزوات ماريان”، والذي يتضمّن لمساتٍ روائية جعلته يتخيّر مونتاجياً إغلاق البناء السينمائيّ الدائريّ للفيلم، حيث ينتهي بلقطةٍ ختامية لتمثالٍ كبيرٍ للأسد الذهبي (رمز جائزة مهرجان فينيسيا) مُعلقاً في الهواء.
في بداية الفيلم، كانت الجائزة المُتمثلة بأسدٍ ذهبيّ صغير مُغلفة في علبتها، وفي آخر الفيلم، يتحرّر هذا الأسد، ويصبح كبيراً، تلك الحرية منحت “كمال شريف” جرأة مواجهة أصحاب القرار السياسي، والسينمائي، ووضعتهم في مأزق الاعتراف بتجاهل حقوق المهاجرين الذين لم تعدّ تنطبق عليهم هذه الصفة، لأنهم أصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعيّ الذي يعيشون فيه، كما هم أيضاً جزءٌ من الصورة التي تلتقطها الكاميرا، ولا يستطيع النظام الفرنسي إقصاء “الآخر” من هذا المشهد الإنسانيّ المُتعدد الثقافات، والديانات.
“نزوات ماريان”، مُؤثرٌ، مُثيرٌ للجدل، صادمٌ، اضحٌ، وصريحٌ، لا يقع في تكرار الأفكار المُسبقة، نهم الصور النمطية، التلصص على أشكال التعاسة، التلذذ بموقع الضحية، أو التعاطف مع المساكين.
إنه بالأحرى صرخةٌ مترددة الصدى ضدّ محاولات تجاهل إبداعات المهاجرين، ورغبتهم الشرعية في سرد حكاياتهم، وتاريخهم بأنفسهم.
فيلمٌ تسجيليّ يستحقّ المُشاهدة، ويثير انتباه القنوات التلفزيونية، والمهرجانات السينمائية العربية، لأنه يمتلك قوةً، وجرأة، وبشكلٍ خاصّ، أملاً ينضح في لقطاته، ويمنح المتفرج قدراً من طاقةٍ يحتاجها.

هامش:
مُقتطفات من حوار أحد مشاهد فيلم “نزوات ماريان” بين المخرج “كمال شريف”، والسيدة “فيرونيك كايلا” مديرة “المركز الوطني للسينما” في فرنسا.

فيرونيك كايلا : بلا شكّ، لقد سمحَ عملكَ بتحريك الأشياء، وكما تعلم، إن لم نمتلكَ القدرة على الاهتمام بالآخر، سوف تصبح ثقافتنا فقيرة، ضيقة الأفق، وعقيمة.
وهكذا، إحدى تلك الاهتمامات بالآخر، والتي تبدو ضرورية للغاية، وخاصة فيما يتعلق بالمهن الفنية، هناك اهتمام خاصّ حريصة عليه منذ بدأتُ عملي في “المركز”، ويتجسد بأن يشارك دائماً في جميع اللجان نسبةً كبيرة من الأقليات الواضحة، بحيث يتسنى لكلّ واحدٍ التعبير عن نفسه، وتقديم وجهة نظره الخاصة نحو المشاريع التي يقرأها.
كمال شريف : هذا اهتمامٌ جديد، إضافة من طرفكم، لم يكن موجوداً من قبل، لأنني كنت أعبر عنه في رسائلي، ولكن، في لحظةٍ ما، كانوا يقولون بأنني انتقدهم كثيراً، ولكنني أجبتهم : “اسمحوا لي بالمُشاركة في اللجان، وحتى كقارئٍ بسيط”، كي أظهر لهم بأنني أرغب تقديم المساعدة.
فيرونيك كايلا : انتبه، سوف أفهمُ كلماتكَ بأنك تريد ذلك فعلاً.
كمال شريف : أنا جادٌ فيما أقول.
فيرونيك كايلا : حسناً، اتفقنا.
كمال شريف : أنا سعيدٌ فعلاً.
فيرونيك كايلا: لا هذا وعدٌ،  أعدكَ بأنه سوف يتحقق.
كمال شريف: سوف أكون مبتهجاً بتقديم مساهمتي كي تصبح الأمور أفضل .
فيرونيك كايلا : لا تحذف كلماتي من المونتاج، وهكذا، سوف تسمحُ لك هذه المساهمة بالتعرف من الداخل على طريقة تسيير الأمور في “المركز الوطني للسينما”، والذي أعتقد بأن إدارته محقة بالاعتماد على نظام اللجان، بخلاف ذلك، سوف نقع سريعاً في المخاطر المُترتبة على جماليةٍ واحدة، ولا يوجد ما يدعو بأن تكون جمالية الدولة صحيحة، ولكن، أعتقد فعلاً، بأنه من الضروري تكوين هذه اللجان بطريقةٍ تعكس المجتمع الفرنسي في عمومه، وقد أظهرتَ هذه الفكرة بشكلٍ جيدٍ جداً في فيلمك، إن لم نُولي الاهتمام الكافي، فسوف نخلق الأوجاع، التمرد، والإحباط، ونُدمر الجمال الذي يمتلكه مجتمعاً مُتعدد الثقافات.


إعلان