الوثائقيّ والوثائقيون

إنّ الفيلم الوثائقي هو روح الشّعوب والبلدان. فلا بلاد للشّعب ولا شعب  للبلاد ما لم يحتفظا بأيّ أثر من آثار التّاريخ والعوائد والصّراعات أو الآمال والأفراح والأتراح. لذلك يستجيب الفيلم الوثائقيّ لحاجة الذّاكرة، إذ يساهم عند بعضهم  في تحديد صيغة رائجة من صيغ تثميرالحنين إلى الماضي وهو عند غيرهم عمل من أعمال المقاومة الثقافيّة والمواطنّة.
إنّه لمن الضّروريّ والمفيد إنتاج أفلام وثائقيّة عن المصوغ والملابس التّقليديّة وعن الطّقوس الاحتفالية والمعالم الأثريّة أو عن الوجوه الرّائدة في ميداني الفنون والآداب، لكنّ الاحتفالات وتخليد الذّكريات وتقديم الاعترافات بالجميل لا يمكن أن يقتصر على الماضي مهما كان هذا الماضي مجيدا، ولا يمكن أن يُحْصَرَ في الشّخصيات الشّهيرة المعترف بها. فهذه المهمّة يمكن أن تنهض بها أيضا التلفزة العموميّة. إنّ المخرج الوثائقي يجب أن يهتمّ بتقديم ما لا تجرؤ الشّاشة الصّغيرة على تقديمه. لذلك تتضمّن ممارسة السّينما الوثائقيّة استتباعات ومواقف سياسيّة لا يمكن تجنّبها شئنا أم أبينا. فما إنْ يوّجه السّينمائي تساؤله عن صيغة وجوده في العالم وعن المشترك بينه وبين الآخرين، حتّى يصبح تساؤله تساؤلا سياسيّا في جوهره. وهذه الصّلة بين الجماعة والفرد هي التي يستكشفها الفيلم الوثائقي.

نَدْرَةُ الصُّوَر….

يبدو الإنتاج الوثائقي، في البلدَان العربيّة، دون المأمول حتّى في بلاد لها تقاليد سينمائيّة صلبة مثل مصر. إنّ الفيلم الوثائقي الذي كان قد مرّ بفترات ازدهار بفضل “محمّد التهامي” وغيره من السّينمائيين  مثل “توفيق صالح” و”شادي عبد السّلام” يعيش فترة تراجع كبير. إنّ قطاع السّينما في بلاد النّيل يبدو حاليّا شبه معطّل. وإنّه لمن الطّبيعيّ أن تصيب الفيلم الوثائقي نتائج هذه الأزمة بسبب وضعه الهشّ سَلَفًا. ولا يمكن للعوامل الاقتصاديّة المرتبطة بمسالك تمويل قليلة المصداقيّة وفوضويّة في مستويات الإنتاج والتّوزيع أنْ تبرّر قلّة المثابرة والمداومة في مجال حيّويّ كهذا المجال. لا وجود عندنا لأفراد جعلوا من هذا اللّون من الأفلام علّة وجودهم وحياتهم فتفرّغُوا له تفرُّغًا كُلّيّا. يتصوّر بعض السينمائيين، في بدء مسيرتهم، أنّ الفيلم الوثائقي مقدّمة لشريط روائيّ طويل. ويتعامل  معه سينمائيون آخرون لا يريدون أن يظلّوا عاطلين عن العمل في بلدان يبدو فيها الإنتاج السينمائيّ شيئا فشيئا أشبه بالحدث العجيب المازوشي، باعتباره وقفة خلاص أو قارب نجاة في انتظار مستقبل أفضل.

وإذا كانت السّينما الوثائقيّة في العالم العربيّ متعثّرة لا تقوى على النّهوض لتغدوَ مكوّنا ضروريّا من مكوّنات عاداتنا الفنيّة والثّقافيّة، فلأنّ الأمر يعود أيضا للعقليّة السّائدة لدى عدد كبير من المخرجين الوثائقيّين. إنّ الفيلم الوثائقيّ، بالنّسبة إلى الكثير من السّينمائيين الذين يحلمون بالنجاح الجماهيري ويبحثون عن التقدير والاعتراف، ما هو إلاّ ملجأ لا يمكنهم أن ينقطعوا إليه طوال حياتهم ليجعلوا منه مهنة يمتهنونها.
 إنّ الدّول التي تدعّم الأشرطة الوثائقيّة لا تقدّم دعمها عن طيب خاطر حقّا لأنّ هذا اللّون من الأفلام قلّما يحقّق ربحا وليس من السّينما المرموقة والملائمة لواجهات التّظاهرات الدوليّة رغم أنّ الوثائقيّ مدرسة جيّدة وجنس هامّ في غاية الإزدهار في الغرب وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينيّة. فالجوائز التي يحصدها تصاعديّا في المهرجانات المعتبرة توكّد أنّ التمييز الذي يحاول بعضهم إقامته بين سينما الخيال والريبورتاج والشّهادات أي بين أعمال من إنشاء المخيّلة وأخرى لصيقة بالواقع، تمييز مصطنع سطحيّ. إنّ جانبا هامّا من السينما الأروبيّة الحديثة  مسكون بالنّوع الوثائقي. ويبدو فضلا عن ذلك أنّ “الوثائقيّ” هو النّوع السينمائي الأقدر على توليد الخيالي في شكل معالجة متخيّلة للواقع وعلى تحريك مرجعيّة ميثولوجيّة تُؤجّجُ وتيرة الواقع وتُذْكِي كيفيّة تعاملنا وتفاعلنا مع هذا الواقع المتقلّب.

* الهادي خليل، أستاذ السّينما والأدب بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة (جامعة سوسة، تونس)


إعلان