فلسطين من خلال بعض الأشرطة الوثائقيّة

بقلم الهادي خليل*

تُحيلُنَا صور مجازر صبرا وشتيلا، بالأمس واليوم وغدا، إلى سؤال جوهري: هل للدّمار والقسوة والوحشيّة تعابير أخرى لما حدث في بعض المخيّمات الفلسطينيّة في بيروت؟ ماذا بعد كلّ هذا؟ دَاهمنا مشهد مُرعب. الصّورة التي عطّلت، ولو لفترة وجيزة، دوّامة العالم في صورة جنديّين إسرائيليّين يحاولان كسر مفاصل يدي شابّين فلسطينيّين بالحجر ويصرّان على وأدهما أحياء.
المخرجة الألمانيّة مونيكا مورار (Monique Maurer) المعروفة بانتصارها للقضيّة الفلسطينيّة، ركّزت فيلمها الوثائقيّ الذي أنجزتهُ سنة 1988 “فلسطين تحترق” (Palestine en flammes) على هذه الصّورة المركبة، حاولت المخرجة رصد ردود الفعل الدّقيقة لأطفال أوروبّيّين نراهم يشاهدون باهتمام مشهد “كسر الأيدي” في التّلفزة. غرض المخرجة من إعادة تركيب هذه اللّقطة واضح: ليتمعّن أطفال الغرب في جرائم إسرائيل في الأراضي المحتلّة.

الانتفاضة

نكتب هذه الصّورة  باستعمال كلمات “داهمنا” و”مرعبة” و”مربكة”، فهل نتلقّى صور فلسطين بهذه الكيفيّة حقّا؟ هل “للمداهمة” و”للرّعب” و”للإرباك” معنى بعد كلّ هذا؟
أصبحت الصّور التي تأتينا عن فلسطين عاديّة وباهتة. الأخبار التي تهمّ الأراضي المحتلّة هي “المادّة الرّوتينيّة” لنشرات الأخبار الصّباحيّة والمسائيّة والفجريّة واللّيليّة وما بينها، لكن هذه الصّور لمن هي؟ من صنعها ومن بثّها؟
كسّرت الانتفاضة هذا النّسق الرّوتيني وأعادت للقضيّة الفلسطينيّة اعتبارها وصدارتها في الأحداث العالميّة. ذكّرتنا الانتفاضة بالدّور الحيوي الذي قامت به نسوة المقاومة الفلسطينيّة. في الفيلم الوثائقي “الانتفاضة” (1988) للمخرجة البريطانيّة جيني مُرقان (Jenny Morgan)، كم هي مؤثّرة تلك اللّقطة التي نشاهد من خلالها أُمّا فلسطينيّة تُزوّد ابنها بكميّات من ��لحجارة وهي تنظر إلى الأرضيّة المنبسطة أمامها، حائرة، مرتبكة رغم حركات يديها الحثيثة والمنتظمة. الأمّ منزعجة لا لأنّ الجنود الإسرائيليّين كثّفوا من طلقاتهم النّاريّة، بل لأنّ الحجارة لم تعد موجودة بالكيفيّة المطلوبة.
في فيلم تسجيلي آخر يحمل عنوان “مخيّم الشّهيدة” للمخرج الفلسطيني ناظم الشّريدي، أنجز سنة 1988 في أوج أحداث “ثورة الحجارة”، نرى امرأة فلسطينيّة، صاحبة المكتبة المدرسيّة الوحيدة الموجودة في مخيّم الشّهيدة قرب جامعة بيت لحم، تؤكّد أنّ المواجهة المسلّحة هي الوسيلة الوحيدة التي تُمكّن الشّعب الفلسطيني من استرجاع أرضه المسلوبة.
يسألها المُخرج:
– “لماذا تناضلين؟”
– “للعودة إلى فلسطين”
– “لكنّ فلسطين هي هنا بالذّات، قريبة جدّا ومليئة بالحياة”
تردّ الأمّ الفلسطينيّة:
– “لا، لقد جعلها الإسرائيليُّون بعيدة وجريحة”.
ينتهي الشّريط بمشهد التّلاميذ وهم يصعدون مرتفعا للذّهاب إلى الشّهيدة يغمرهم ضوء الشّمس السّاطعة. النّساء عنيدات لأنّ ذاكرتهنّ دائمة الاتّقاد. إنّهنّ يمتلكن ذاكرة شعب بأسره، ويتذكّرون كلّ مرّة عبر صور الشّهداء المحفوظة بعناية أنّ طريق فلسطين رَسَمَتْهُ لُغََةُ الدَّم وأنّ تَناسي تضحيّات الشّهداء يضاهي الخيانة الكبرى.
النّساء هنّ اللاّتي يتذكّرن العائدين الفلسطينيّين إلى بلدهم بعد سنوات من المنفى والتّشرّد برسوم أراضيهم وبحدودها الأصليّة.

يروي شريط “جدران القدس الحديديّة” للمخرج ناظم الشّريدي، عودة فلسطينيّ إلى مواقع أرضه التي انتُزعت منه سنة 1948، ويدعونا إلى رؤية ما تبقّى من منزله ومن بعض منازل بقيّة أفراد عائلته إلى المساحة المحتلّة من قبل الإسرائيليّين. بعض النّساء يوجّهنه في مسيرته ويدلُلْنَهُ بدقّة إلى مساحة الموطن الأصلي. الأرض ضاعت قطعا ولكن تبقى هذه المبادرة الأخيرة للمواجهة وهي إعادة رسم الخرائط الحقيقيّة لأرض فلسطين ومسحها بواسطة أيادي النّسوة الفلسطينيّات النّبيهة والعريقة.

—-

*  الهادي خليل، أستاذ السّينما والأدب بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة (جامعة سوسة، الجمهورية التّونسيّة).


إعلان