ملامح السّينما الوثائقيّة التّونسيّة ورموزها

تمتلك تونس رصيدا محدودا، كميّا، من الأشرطة الوثائقيّة فضلا عن قلّة انتظام الإنتاج الوثائقي فيها. لكنّ هذا الرّصيد المحدود جدير بالتقدير نوعيّا. ويمكن أن نعدّ الجيل الحالي من المخرجين التونسيين الوثائقيين ضمن أفضل المبدعين موهبة وإبداعا في العالم العربي، بعد ذلك الجيل من “الوثائقيّين” الذين أنجبتهم لبنان خلال السنوات السبعين مثل الفقيدة “رندة شهّال” (“خطوة خطوة”) و”جوسلين صعب” (“مدينة الموتى” و”اليوتوبيا تتقدّم” عن بدايات الثّورة الإسلاميّة في إيران).
لقد تطّورت منزلة الفيلم الوثائقي التونسي في السنين الأخيرة، إذ اكتسب أهميّة وحجما بعد أن تمّت مقاربته باحتشام في السّنوات الأولى التي تلت ولادة السّينما التّونسيّة. ولم يعد للعزلة التي عرفها هذا النّوع السينمائي من سبب. ففي السّنوات السبعين، كانت مشاغل بعض الأفلام الوثائقيّة التي تمّ إنجازها هي ذات المشاغل الإجتماعيّة التي عكستها الأشرطة الرّوائيّة المؤسّسة، مثل “وغدا…؟” (1972) لإبراهيم باباي أو “سجنان” (1974) لعبد اللطيف بن عمّار.

عبد اللطيف بن عمار

لقد أكّد السينمائيون الشبّان الذين انخرطوا في الجوّ النّقدي الاحتجاجي  المميّز للجامعة التونسيّة لنوادي السّينما العريقة والتي يعود تاريخ بعثها إلى سنة 1949، والجامعة التّونسيّة للسينمائيين الهواة التي رأت النّور سنة 1964، أهميّة تكوين رؤية تركّز على الحقائق التّونسيّة الحارقة والرّاهنة، وهذا ما يتبيّن من خلال شريطين وثائقيّين مميّزين للطّيب الوحيشي “قريتي من بين قرى أخرى” و”الخمّاس” اللّذان تمّ إخراجهما سنتي 1972 و1974.
لكنّه يمكننا أنْ نجزم أنّ الفيلم الوثائقيّ التّونسي قد اكتسب خلال السّنوات 80 و90 و2000 حيويّة واعدة وكشف عن حساسيات وتيّارات مكوّنة لما يجدر بنا تسميته “المدرسة التّونسيّة” في هذا الميدان. فلقد شُغِفَ “حميدة بن عمّار”، السّينمائي الوثائقي الرّائد، بتاريخ تونس السّياسي والاجتماعيّ والثّقافي القديم والمعاصر. أمّا “عبد اللطيف بوعصيدة”، وهو أكثر المخرجين الوثائقيّين التّونسيّين إنتاجا، فقد حاول أن يوجّه نظرته المعطاء المستطلعة نحو “تونس” بحثا عن معدن التعدّد الثقافي والإثني في بلاده. إنّ غالبيّة أفلام “بن عمّار” و”بوعصيدة” هي أشرطة وثائقيّة داخل الأشرطة الوثائقيّة، إذ أنّها تفتحُ أعيننا على الرّوح التي تحدو الفريق التقني عند تصوير العمل وعلى العلاقة بينه وبين المخرج، كما أنّها تُعرّفنا بينابيع ومصادر بعض الأشرطة الخياليّة التّونسيّة، خاصّة فيما يتّصل بالممثّلين. ففي شريط بن عمّار “الزّيتونة في قلب مدينة تونس” (1984) مثلا، تظهر وجوه أليفة في المسرح والسّينما التونسيّة، مثل “توفيق الجبالي” و”نور الدّين عزيزة” والوافد الجديد “النّوري بوزيد” الذي قام في نفس الوقت بمهمّة المساعد في الإخراج وأدّى دور المدّرس في مؤسسة “الزّيتونة” الدّينيّة المهيبة. إنّ السّينما كما مارسها “حميدة بن عمّار” هي شبكة من الصداقات والعلاقات الحميمة.
ولقد ظهر في شريط “جزيرة اللوتس” (1982) لبوعصيدة، اليهودي التونسي القادم من “الغريبة” بجزيرة جربة “يعقوب بشيري” وهو أوّل ظهور له في السّينما التّونسيّة قبل أن يلعب دور الشخصيّة المفتاح سنة 1985 في رائعة النّوري بوزيد “ريح السدّ”. إنّنا متى تعلّقنا بإعادة تركيب “جينيالوجيا” أي سلالات السّينما التّونسيّة وتقاطعاتها، لا مفرّ لنا من اعتبار “الوثائقيّ” مرجعا من الدّرجة الأولى. ففي بلاد متوسّطيّة التّوجّه ليست كلمات “روح التّسامح” و”الأخوّة” فيها مجرّد كلمات فارغات من المعاني، وضعت السينما الوثائقيّة نفسها على ذمّة هذا التوثّب المقدود من كرم ومن حبّ.

محمود بن محمود 

لقد أنجز “محمود بن محمود” بالخيال حينا وبالتحقيق أحيانا، أفلاما رائعة عن أجانب اختاروا العيش والموت في بلادنا مثل “أناستازيا البنزرتية” و”إيطاليّو الضفّتين” و”أجمل إيطاليات تونس”. أمّا “هشام بن عمّار”، المنحدر من عائلة تونسيّة عريقة، فهو عاشق للأحياء العتيقة في مدينة تونس مثل “الحلفاوين” و”باب سويقة”، نجده في حالة بحث  دائب عن شخصيات آفلة للزوال، مثلما يتجلّى ذلك في فيلمه “كافيشانتا” عن الراقصين والموسيقيين التّقليديّين، أو في فيلمه المتميّز والذي نال جوائز عديدة، “رايس الأبحار” عن صيّادي سمك التونة بالهوّارية في منطقة الوطن القبلي التّونسيّة، أو في فيلمه “شُفْت النّجوم في القايلة” (رأيت النجوم عند القيلولة) عن تاريخ الملاكمين التّونسيّين الذين تآكلهم النّسيان. ولقد وُفِّقَ هذا المخرج ببراعة وحِنْكَة مُتوَهِّجَة في أن يمسك بتلابيب التقاطع الذي لا مهرب منه بين الواقعي والخيالي.


إعلان