نحن والغرب: السّينما الوثائقيّة زمن العولمة

 تستوجبُ هذه الدّراسة توضيحا مُهمّا وهو أنّ التّحَاليل والاستنتاجات التي تتخلّلُها لا يُمكن تعميمها ولا اعتبارها حقيقة ثابتة. فكلّ ما ورد في هذه الدّراسة عن السّينما الوثائقيّة الغربيّة والعربيّة زمن ما سُمِّيَ “بالعولمة” مُرتبط ارتباطا وثيقا بالنّماذج الفيلميّة المُعتمدَة في هذا المقال وبإطار زمنيّ وتاريخيّ مُحدّد. إنّ المحامل التي يرتكز عليها هذا البحث هي التي تُفْرِزُ نَوعِيّة القَضايا والإشكاليّات التي يطرحُها هذا البحث المُتمحور حول التّدقيق في المُمارسات السّينمائيّة الوثائقيّة لبعض المُخرجين الأوروبيّين الكبار وبعض الأفلام المنجزة في هذ المجال من قبل بعض المُخرجين العرب. فالفُنُون، وخاصّة منها السّينما، كانت سبّاقة في بلورة مسألة العَولمة قبل أن تُشعّ نظريّا وفكريّا بكلّ خلفيّاتها الإيديولوجيّة والسّياسيّة.

الشّرارة الملهمة…
 
 أدرك الناقد الفرنسي أندري بازان (André Bazin)، منذ الخمسينات، في مؤلّفه الشّهير “ما هي السّينما؟” Qu’est-ce que le cinéma ? أنّ الصّور الوثائقيّة للأحداث الرّاهنة (Les actualités) هي مادّة الفنّ السّينمائي الأولى والأساسيّة.
وربّما هذا هو السّبب الذي دفع المخرج الإيطالي رُوبارتُو رُوسلّيني Roberto Rossellini إلى إعادة النّظر في ماهيّة الفنّ السّابع وفي وظائفه المتعدّدة بالرّجوع به، كما يتجلّى ذلك في جلّ أفلامه، إلى مصدره الجوهري وهو التّصوير التّسجيلي والتّوثيقي. ولعلّ هذه القوّة التي كانت تتميّز بها السّينما في فترة سابقة، هي في طريق الاندثار والموت حاليّا لأنّ الإيمان بالفنّ السّينمائي وبقدراته يمرّ بفترة حسّاسة من التصدّع والإرهاق.

البطل الأوديسي أو عودة المكبوت الوثائقي..

 مِحور هذه الدّراسة الأساسي فيلم مهمّ للسّينمائي اليوناني تيو أنجلوبولوس Théo Angelopoulos عنوانه “نظرة عوليس” (Le regard d’Ulysse)، يعود تاريخ إنجازه إلى سنة 1995. واخترنا هذا العمل السّينمائي أساسا لأنّه يعكس بصفة جليّة قضيّة تكريس الخصوصيّة الحضاريّة والثّقافيّة في علاقتها بما يحدُث من رجّات وتغيّرات حثيثة في العالم.
 يروي هذا الفيلم قصّة رجل يُكلّف من قبل إدارة خزينة الأفلام اليونانيّة بالبحث في منطقة البَلْقَان (Balkans) عن ثلاثة أشرطة وثائقيّة قصيرة للأخوين “منّاكيس”، ميلتوس وينّاكيس، وهما رائدا السّينما الوثائقيّة في اليونان عند مطلع القرن الماضي. نراه يجوب بلدانا مثل رومانيا وبلغاريا ويوغسلافيا وألبانيا تعيش تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة خطيرة، دون العثور على النّسخ السّلبيّة للأشرطة التي أُتْلِفَتْ. تَتَخلَّلُ المتوالية السّرديّة للفيلم مقتطفات بالأبيض والأسود من أشرطة للأخوين منّاكيس تُصوّر مشاهد حيّة من الحياة اليوميّة في بعض القرى اليونانيّة.
 السّينما فنّ يحتضر. الأحياء من البشر لم يعودوا قادرين، في هول الدمارات والمذابح، على الحبّ.
 حيال هذه الأزمات الفنيّة والإنسانيّة الخانقة، تتوجّب العودة إلى بدايات الصّورة السّينمائيّة وتحديدا إلى تلك الأشرطة الوثائقيّة التي عكست بدون ادّعاء حياة الشّعوب في أفراحهم ومآسيهم. ماذا بقي للسّينما أن تقوله وتَحْكِيه أمام بشاعة المعاناة واندثار كلّ القيم؟ حلّت التّلفزة محلّها في متابعة الأحداث الصّاخبة واحتكار أعين المشاهدين وقرائحهم. لم يعُد بإمكان الفيلم الحديث، أي الفيلم الصّاغي لرجّات العالم وكوارثه، نسج صور أو التّلفّظ بأفكار إلاّ وهو منحلّ ومازج في الآن نفسه تداعيات الحاضر بالماضي الحميمي وسِمَات الخيال بالواقع الملموس، مثل خليّة سرطانيّة تتآكلها السّموم وزوال الفنون، ما عدا تلك البصمات الهيروغليفيّة التي رسَمت الخطوط الأولى لنزعة التّناحر والتّقاتل الجامحة التي استبدّت بإنسانيّة العصور الحديثة. لذا تُفرز هذه الحفريات الشّاقة بطلا من طينة خاصّة، أوديسيّا تائها نقيّ الذّاكرة، وفيّا لفتوحات الأجداد الفنيّة لكنّه منكسر الخاطر ومكبّل العواطف والأحاسيس ومتفرّج في ما يدور حوله من أحداث ومورّط من تلقاء نفسه في ضياع لا نهاية له. عندما يعود إلى بلده الأصلي – هذا طبعا إذا عاد – لن تكون في انتظاره زوجة ولا أولاد.

كامل المقال


إعلان