“مسرح وحرب”لهشام كايد: قياس كثافة المشاعر بالكامير

تكاد جملة المعلمة الجنوبية في الفيلم الوثائقي الجديد للمخرج الفلسطيني اللبناني هشام كايد ( مسرح وحرب  )-2009 – تختصر الحكاية برمتها. تقول فاطمة، وقد قصدت مسرح المدينة البيروتي في أعقاب الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان في تموز 2006، إنها وصلت المسرح مع بناتها مريم وريم وتالا ” ومن شدة إرهاقهن نمن مثل أهل الكهف “. يبدو الفيلم بعد معاينة أولية، أنه يقوم من حيث بنيته التسجيلية في الظاهر على تنظيم ورشات عمل للأطفال في المسرح طوال فترة الحرب. عمل بالتأكيد لا يخلو من رمزية ودلالات. ربما يمكن المسرح بالفعل أن يقوم بذلك، وهو أقرب الفنون إلى التشخيص الحي باعتماده أساسا على الوجود الحقيقي للإنسان على الخشبة. فلا وجود لوسائط بديلة تحجب الجسد وتعبيراته وتجلياته المختلفة. ربما الحرب نفسها تصبح هنا مسرحا غير قائم بحد ذاته، ولكن ثمة خيالات تتدافع وتتناقض وتتصارع.  درجة تصديق بيرتولد بريخت فيما ذهب إليه يوما، من أن كل أولئك الذين كتبوا بعد طول صمت وتفكّر على الحيطان، بأن دعهم يذهبوا إلى الحرب، ومن يكتبها في هذه اللحظات يموت أيضا.
أهل الكهف، في الفيلم، كما في الحياة، ليسوا مجرد أطفال لجؤوا إلى عالم تحتاني هربا من ويلات الحرب، وهم قد هجّروا بالأساس من بيوتهم بتأثيرات مختلفة لهذه الحرب التي تدور الآن خلف ظهورهم، وهم يعايشون تجربة فريدة من نوعها تمكنهم من اكتشاف مواهبهم الخبيئة على ضوء شمعة. ليس الأمر كذلك فقط. ما يفعله المخرج الفلسطيني هشام كايد، يستحق أن يؤخذ بعين الاعتبار، فالأطفال هنا يدربون بصيرتهم على اختيار مواضيع الإنشاء، التي لم تكن تخطر ببالهم في المدارس نفسها التي كانوا يقصدونها قبل الحرب ويتعلمون فيها قبل أن يمّحى بعضها عن وجه الأرض، فيما هم يقيمون في أعماقها الآن. مواضيع الإنشاء، في عالم تحتاني أرضي يعيش على وقع الانفجاريات والقذائف وعنف الخطابات المتبادلة تصبح وكأنها تنجو بأصحابها خارج اللحظة، وكل ما هو آني وراهن، إذ يكفي المرء مغادرة المكان الذي يقيم فيه، حتى يشعر ببداهة مغادرته للّحظة ذاتها، وكأنه ينجو بروحه، ويعلم بصيرته على الاستقراء بماء الرعد من حوله.

المخرج الفلسطيني اللبناني هشام كايد

لحظة غاشمة تقول فيها الفتاة الجنوبية ” إن السياسة في بلدها تصعّب الحياة، والاغتيال فيه شيء مسموح به “. ربما كانت الفتاة، وهي تقيم لياليها في قاعة مسرح المدينة، تكتشف من دون أن تدري أيضا مغزى الخروج من اللحظة القاسية ذاتها. هاهنا تنجلي الأحاسيس وتقوى البصيرة. تصبح أشد نفاذا في الواقع المضاف. هذا ما يفيد المعلمة – الأم فاطمة التي ترفض زيارة المدرسة التي تعلم فيها وهي في طريق عودتها إلى عيتا الشعب. المدرسة التي حملت ذكريات الأطفال، وهي الذكريات التي لا تشكل قطيعة من أي نوع مع الذاكرة الهشة التي تميز عوالمهم. الذاكرة هنا صلدة ومغايرة، ولا تقطعها الألعاب البريئة التي قاموا بها وهم لاجئون في المسرح المديني. هم يستعيضون عنها بالألعاب التي توفرها رمزية المسرح ذاته، وهو ما لم توفره لهم الحياة الواقعية. يبدو اللجوء إلى المسرح في الحرب مثل لعبة الحرب نفسها، وهي مسألة بحاجة إلى قراءة واعادة تأويل، فاللجوء هنا يقيس من جهة كثافة الوعي الإنساني، ودرجات تخبطه في عمق المأساة التي تحيط به، وهو يتربص بكل رمز وكل جديد، ويؤكد من جهة على أن الرموز الحيّة التي يخلقها المسرح وهو في حالة التصاق بالجمهور تتعدى الحالة الوجودية التي تعصف بالناس في الملمات، وفي ظروف الإحباط والانكسار. بهذا المعنى ( مسرح وحرب ) يبتعد أيضا عن رمزية قصة أهل الكهف، وهو يتطلع إلى المناورة البشرية وقت الحرب. تقول الأم بعد لجوئها مع بناتها إلى كنيسة رميش هربا من ضيعتها الجنوبية التي تعرضت لقصف عنيف إنها “اخترعت” أسلوبا  في تنويم بناتها على “طرّاحة” وبطانية واحدة بطريقة متعاكسة، لأنه ” إن حصل مكروه، فإحداهن ستتلقى الضربة في رأسها والأخرى في قدمها، وهذا يعطي فرصة لإحداهن أو لاثنتين منهن أن يعشن “.
( مسرح وحرب ) قياس لكثافة الأحاسيس الإنسانية بعيدا عن تلك الرموز التي لا تنعتق إلا في اللعبة المسرحية ذاتها، عندما يبدأ الممثل بالتراجع والتقهقر ليكشف بذات الوقت عن دوره، وعن قناعه، فالمسرح في النهاية كناية عن هذا الكشف، وما تقوله فاطمة بعد وقف إطلاق النار وهي تغادر المسرح في صباح مبكر متوجهة مع بناتها وزوجها حسن… (  صباح الخير.. صباح الخير أيتها الكاميرا ).
صباح الخير. كأن الكاميرا لم تكن هناك بين أهل الكهف تسجل لحظات نادرة عن ممثلين صغار يهربون من الجحيم فوق الأرض، مع أن كل ما فعله هشام كايد بالكاميرا الخفيفة هو ” متابعة مصير” هذه العائلة الجنوبية المهددة برموز الحرب وفرسانها، وهم ينامون تحت الأرض في مسرح المدينة الفاضلة.   


إعلان