الرجل الأكثر خطورة في أمريكا

قيس قاسم

حتى شهر سبتمبر من عام 1969 كان دانيل ألسبيرغ من أكثر الشخصيات قربا لوزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا، وأشدهم أهمية بين العاملين في مكتبه خلال الحرب على فيتنام. فألسبيرغ كان من بين المحللين السياسيين الأكفاء ومن القلة التي رسمت أستراتيجات الحرب الفيتنامية قبل ان يتحول من مخطط للحرب الى مناهض عنيد لها؟.   
شخصية مثل هذة، تغوي، دون شك، مخرجين كثر لصنع أفلام وثائقية عنها، غير أنه في نفس الوقت يدرك من يشتغل في هذا الحقل، وقبل غيرهم، ان الاقدام على ذلك فيه من الخطورة الكثير. فرسم ملامح شخصية بهذة السعة والأهمية، وبعد أكثر من نصف قرن على بروزها بقوة، يحتاج الى فهم عميق لها، وأمتلاك قدرات فنية تساعد على تجميع تفاصيل صورتها كاملة، فغياب أي جزء منها، مهما صغر، سيشوهها، وسيلغي مبرر محاولة اعادة تشكيلها سينمائيا. كما أن محاولة اسقاط بعدها السياسي على الوقت الحاضر، وبشكل مباشر، سيبدو مفتعلا إذا لم يبرر وفق سياقات مستمدة من ظروفها التي نشأت وتفاعلت فيها، أي، وقبل كل شيء من الشخصية نفسها ومن تجربتها الحقيقة، وهذا ما حاولت المخرجة جوديت أرليك وزميلها ريك جولدسميث، تحقيقه في فلمهما، مستفيدين من أكثر وسائل التعبير البصري استخداما في الوثائقي: صور من الأرشيف؛ فوتوغراف، وثائق تلفزيونية وسينمائية، وثائق شخصية، تسجيلات صوتية، رسوم متحركة ومقابلات “صحفية”. تسجيلات بالأسود والأبيض، ملونة ووسائل توضيحية حديثة التقنية. ومن أجل كسب أكبر قدر من المصداقية أحضروا أغلب الشخصيات التي كانت لها علاقة بألسبيرغ، وبالوثائق التي سربها. وكان من المنطقي أن يكون هو وأفراد عائلته في مقدمة المتحدثين عن التجربة التي عرضت حياتهم يوما لخطر حقيقي.

متحدثا للصحافة

بدا دانيل، وهو في العقد السابع من عمره، متصالحا مع نفسه ومع تاريخه وهو يسرد تجربته مع الحرب وكيف أنتقل من مؤيد لها الى معارض. لقد أستخدما المخرجان حديثه كأرضية وخلفية لسرد الأحداث، فما كان يهمهم ليس الكلام نفسه قدر الصورة وقوة اقناعها. ومع أنه ساعد كثيرا في رسم صورته الشخصية ومعه زوجته، إلا ان الكم الهائل من الصور والوثائق أعطت لكلامه مصداقية وعمق مدهشين. فكل مقطع أو حادثة كانت الصورة تصاحبها بعناد وكأنها لا تريد له أن ينفرد بسرد الأحداث دون أعطاء الأخرين فرصتهم في تكريب المشهد كاملا، ولهذا لجأ المخرجان ومنذ المشهد الأول بالاستعانة بالمؤثر البصري الفعال، فدخلنا الى الشريط عبر مشهد لخزانة تفتح أقفالها ثم يأخذ منها رجلا أوراقا ويختفي! ثم يعود نفس الرجل ليكمل كلامه. قال وقبل كل شيء أنه ساهم في الحرب وكان مقتنعا بها: لقد كنت مؤمنا بأننا بتدخلنا في فيتنام انما نرسخ الديمقراطية ونقف ضد الدكتاتورية الستالينية. لهذا شاهدناه في فيتنام مقاتلا متطوعا لا لشيء سوى ليعيش أجواءها ثم يخطط في ما بعد لرسم مسارها على ضوء التجربة المعاشة. كان دانيل نموذجا نادرا في حماسته، ولكن وبعد مضي وقت قصير من الحرب أقتنع بأن ما يقومون به هو حرب ابادة ولهذا وقف ضد الهجوم الجوي وضد اسقاط القنابل فوق رؤس البشر، ونجح في اقناع ماكنمارا في اجتماع سريع وهما على متن طائرة حربية بفكرته، ولكنه فوجيء بموقف مختلف تماما، فقد أعلن الوزير فور هبوطه من الطائرة الى الصحفيين أن مسار الحرب يسير لصالح أمريكا وأن القصف الجوي نفع ولكن ما يهمه هو حقن دماء المدنيين. لقد شعرت حينها بأنني أتعامل مع كذاب وليس سياسي نزيه، هكذا وصف دانيل وزير دفاعه ومسؤله المباشر.

نيسكون ووزير خارجيته كيسنجر

ولم يبقى الأمر عند هذا الحد، فأمتد الى نيكسون الذي وصل الى الحكم بناءا على برنامج انتخابي روج لفكرة ايقاف الحرب، ولكن التسجيلات الصوتية أكدت له ان الرئيس لا يقل كذبا، بل هو أكثر وقاحة وعدوانية من غيره كما ظهر في التسجيل الذي سمعه وهو يتحدث الى  كيسنجر مقترحا عليه فكرة استخدام قنابل نووية، إذا لم تنفع القنابل التي يستخدمها جيشه. لقد أراد كسب الحرب وليس وقفها وهكذا حال جميع ادارته. موقف دانيل ألسبيرغ، تكون كما بين لنا الشريط تدريجيا وبتأثير من تجربته أولا ومن مواقف زوجته التي كانت معارضة للحرب منذ بدايتها ولكن تجربته مع الصحافة عززت قناعته بأمكانية المضي في صراعه حتى النهاية. لقد كان موقف “نيويورك تايمز”ثابتا ولم تتراجع أما الضغوط، فأفشلت، ومعها بقية الصحف التي تلقفت الكرة وراحت تنشر بدورها الوثائق وتعري الحقائق، كل خطط الإدارة الأمريكية. لقد انتزعت قرارا مهما من المحكمة العليا سمح لها بنشر ما أعطاها لها دانيل ضاربة عرض الحائط تهديداتهم بالسجن والاغلاق. لقد اجتمع الإعلام والموقف النزيه سوية فكسبا المعركة. صحيح ان ضحايا الحرب لم يعودوا الى الحياة ثانية ولكن على الأقل استطاع ألسبيرغ ومعه الصحافة في كشف جزء كبير من الحقيقة، التي أمتد دورها فيما بعد لتسقط نيكسون في فضيحة “ووترغيت”. وصحيح أيضا ان هؤلاء الرؤساء لم يقفوا أمام القضاء ولم تدنهم المحاكم لجرائمهم، إلا ان حركة مناهضة للحرب قد بدأت هناك وأتسعت شعبيتها، لدرجة أستطاعت فرض شروطها بانهاء الحرب. فيما  ظل ألسبيرغ نشطا في دعوته للسلام ومؤيدا لحركاتها في العالم. فما حدث أن “الرجل الأكثر خطورة في أمريكا” صار هو حمامة السلام فيما بعض رؤساءها قد دخلوا التاريخ، معه، ولكن كصناع حروب مدمرة.


إعلان