جلد حى:أطفال وسط السموم يحلمون بالقفز على السور

القاهرة – سهام لطفى

من فوق عربة كارو يجرها حمار، تسلل المخرج الشاب فوزى صالح بكاميرته،  فى أكثر المناطق نسياناً فى القاهرة، و”المدابغ” فى عين الصيرة بالقاهرة القديمة ليخلق صورة حقيقية فى فيلمه الوثائقى الطويل الأول “جلد حى”، والذى حصل مؤخراً على جائزة أفضل فيلم وثائقى عربي فى الدورة الماضية من مهرجان أبوظبي السينمائى الدولى.
وبعيداً عن كل المحاولات الإستشراقية التى أنجزت بها أفلاماً وثائقية حول عمالة الأطفال ، إخترق المخرج الشاب فوزى صالح عالم الأطفال العاملين فى صناعة دبغ الجلود، وكثف فى 56 دقيقة – هى مدة الفيلم –  احلام أطفال  يتنفسون السموم والمواد الكيماوية أثناء صناعتهم الجلود، حيث يعكس إسم الفيلم “جلد حى” صورة صادمة وقاسية، تصل لحد الألم والغضب  لأطفال  يعيشون ويعملون فى مكان لا يصلح إلا ان يكون معقلاً للحيوانات المفترسة.
هناك  بشر من لحم ودم،  يصنعون من جلود الحيوانات، احذية وحقائب ومعاطف، يستخدمها الأغنياء، دون أن يشعروا بالملمس الحقيقي لمن أعدوها لهم، فى مقابل تعرضهم للسموم، والإصابة بأمراض، لا ينهيها سوى الموت..
ثمانية أطفال، هم الشخصيات الحقيقية فى فيلم “جلد حى”، يمثلون نماذج عدة لما يقرب من 2000 طفل  لأطفال  فى مثل أعمارهم، يعملون فى دبغ الجلود، فى منطقة  سور مجرى العيون بالقاهرة القديمة، فهم يحلمون بالقفز من خلف هذا السور الذى يحول بينهم وبين العالم الخارجى – خارج منطقة المدابغ- .. لكل منهم  حكاية، يسردها فوزى، من خلال عربة الكارو المحملة بالجلود ، التى نري من خلالها تلك المنطقة الغارقة فى المواد الكيماوية السامة..

يأتى الفيلم الوثائقى الطويل “جلد حى” – Living Skin-  ليكون أول أفلام مخرجه فوزى صالح، بعد فيلم تجريبى قصير إسمه “موكا” عام 2006…فالفيلم  يعتبر تكملة لمحاولات مخرجه  السابقة فى الكشف عن عالم لا نعرفه، ويقول  : “عندما أردت عمل الفيلم ، فقد كان مجرد تكملة  لتجاربى الغير ناضجة فى هذا المجال، فقد سبق وانا وان قمت بعمل العديد من البرامج التوثيقية فى مناطق بمصر، تفتقر الكثير من الإحتياجات الضرورية واللازمة للحياة”..
 
“فوزى صالح”المولود فى مدينة الإسكندرية عام 1982، كانت له تجربة مشابهة  لشخصيات فيلمه، فقد كان طفلاً عاملاً، لذلك يصر في فيلمه “جلد حى” علي رفض عمالة الاطفال، خاصة الذين يعملون فى مهنة لا تجلب لهم سوى الموت..
” هؤلاء الأطفال  منسيون و مهمشون خلف سور المدابغ، يستطيعون رغم الظروف الاقتصادية – السيئة-  أن يمارسوا بعضا من انسانيتهم عبر علاقات الحب و  الصداقة ، وإحتفائهم بالحياة بتعبيرهم عن ذلك بالرقص والغناء” هكذا يقول فوزى،  ” فالمكان بطل موازى فى الفيلم لباقى الشخصيات، فهو القاتل، والبشر فيه مفعول بهم وليسوا فاعلين، فالأطفال والأهالى هناك محكوم عليهم بالإعدام”.
 كانت لدى مخرج الفيلم رغبة فى عمل فيلم حقيقى، يميزه عن غيره من المخرجيين الموجودين، فهو يحتفى بالطفولة والحب وقدرتهم علي الحياة فى مكان يحلمون بسلخه منهم، مثلما تسلخ الجلود من الحيوانات.
 فى عام  2008 قرر فوزى صالح، عمل  فيلم عن المدابغ، وفى النفس الوقت لم تكن لديه قصة مكتملة، ولا رابط درامى واضح فى الفيلم، فإختار ان يكون العربجى – من لديه عربة كارو- هو الخيط الذى يبدأ به الفيلم..فقد عاش المخرج ، مايقرب من عام فى منطقة عين الصيرة ، المجاورة للمدابغ – أثناء فترة دراسته- لذلك فهو يعرف جيداً الأهالى هناك.
فى فيلم “جلد حى” أصر مخرجه بأن يكون مدخله لعالم الاطفال فى منطقة المدابغ من خلال “المولد”، الذى جعل منه مشهداً لبداية ونهاية الفيلم، ولكى يؤكد منه أن حكاية هؤلاء الأطفال لم ولن تنتهى، إضافة إلى رؤيته من أن هذا “المولد” كان من اكثر المشاهد تعبيرية على مستوى الثقافة الشعبية لهذى الطبقة فى المجتمع المصرى، خاصة وأنه الشئ الوحيد الذى يمثل بهجة للأطفال، الذين يرونه وسيلتهم الوحيدة فى إحتفائهم بالحياة، رغم الظروف المريرة التى يعيشون بها.

وبالتالى كان – المولد- هو إلا الرابط الوحيد والحقيقى علي أحقية هؤلاء الأطفال فى الحياة، والذى يعكس لعبة التجدد الدائم، وهى المفارقة التى يقوم عليها إسم الفيلم، لأن الأطفال فى الحقيقة هم “جلد حى”…فحكاية هؤلاء الأطفال ممتدة، وهم يلعبون وتتغير لعبتهم، ولا يدركون هل هم يعيشوا خارج العالم ام داخله ، وذلك فى الحد الفاصل بين خارج وداخل السور؟.


إعلان