الخط الحديدي الحجازي
كيف قضت بريطانيا على المشروع النهضوي ومهدت لاغتصاب فلسطين
ناصر ونوس
“الخط الحديدي الحجازي” فيلم وثائقي من إخراج قيس الزبيدي عرض مؤخراً على قناة الجزيرة الوثائقية. يستعيد الفيلم تجربة بناء وتدمير الخط الحديدي الحجازي الذي كان يربط الدولة العثمانية بكل من سورية والأردن والحجاز مطلع القرن العشرين، وكان هذا المشروع هو مشروع السلطان عبد الحميد، الذي يريد من خلاله، كما يقول المؤرخون في الفيلم، إنشاء شبكة خطوط حديدية تهدف لربط مدن السلطنة العثمانية بعضها ببعض لإحكام سيطرته عليها، كما كان يهدف المشروع إلى إحياء ما كان يسمى “الجامعة الإسلامية”، أي جمع المسلمين وتسهيل عليهم أداء فريضة الحج. وتأمين سلامة الحجاج الذين كانوا يتعرضون للمخاطر وهم يقطعون المسافة إلى المدينة المنورة على ظهور الجمال. وكان من شأن هذا أن يعزز مكانة السلطان عبد الحميد لدى المسلمين في مواجهة الاختراق الغربي للسلطنة. وبما أن المشروع كان يهدف إلى تعزيز فكرة الجامعة الإسلامية فقد شارك في تمويله إلى جانب السلطان عبد الحميد، كل من خديوي مصر، وشاه العجم.
يكشف أحد المؤرخين السوريين، وهو أحمد المفتي، أن الجنود العثمانيين شاركوا في البناء، وكذلك متطوعون متحمسون لأهداف المشروع. ولهذا لم تتجاوز تكلفته أكثر من خمسة ملايين ومئتي ألف ليرة ذهبية، وكان هذا مبلغ ضئيل بنظر هذا المؤرخ.
ويعرض هذا المؤرخ وثيقة هامة هي الخطاب الذي ألقاه سعد الدين دمشقية (غاب عن المؤرخ التعريف به، وكذلك عن الفيلم) أمام وزير الخارجية في منطقة الزرقاء التي وصل إليها القطار للمرة الأولى في 19 أغسطس من عام 1318 للهجرة والذي صادف “عيد الجلوس السلطاني”. وهو مكتوب بماء الذهب ويحدد أهداف سكة الحديد، ومما جاء فيه: “علم كل عثماني ما يترتب على هذا الخط المبارك من الفوائد الكلية للدولة والوطن العزيز فوائد من البديهيات إدراكها، وأخصها ضم القوة، وجمع شتات الأمة، ونمو موارد الثروة باتساع نطاق التجارة ورواج الصناعة، وإحياء الأراضي الشاسعة بالزراعة، وتوفر أسباب المواصلات بين كعبة الإسلام ودار الخلافة، وربط ��جزاء المملكة وتسهيل طريق حجاج بيت الله الحرام وزوار ضريح حضرة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام”.
بعده يتحدث مؤرخ سعودي كيف أن هذا الخط الحديدي أنعش التجارة، وكيف أدى إلى انتشار البنيان، وكثرة الأسواق، وكل ذلك خلال تسع سنوات فقط من عمر هذا الخط الحديدي. هذا الانتعاش حدث أيضاً في عمان وفي معظم المناطق التي كان يصلها الخط الحديدي، وفق ما يؤكد مؤرخ آخر، هو د. مهند مبيضين، الذي يعتبر أن هذا الخط كان أهم مشروع في القرن العشرين يشهده الأردن لما أحدثه من تحضر للمنطقة.
![]() |
وتظهر إحدى الخرائط ومن ثم الصور الأرشيفية التي تعرض على خلفية صوت القطار، مسار الخط بين مدينة درعا السورية ومدينة حيفا الفلسطينية، لنرى بعدها الكاتب والمؤرخ الفلسطيني محمود الصمادي وهو يتحدث عن كيف أن هذا الخط الحديدي الحجازي هو الذي أحيا حيفا والبلدات المجاورة. “حيفا عمِّرت بسبب الخط الحديد الحجازي”. بينما تحدث مهندس معماري سوري عن كيف أن هذا الخط أوجد نمطاً معمارياً جديداً، تجلى في مباني محطات القطار كما تظهر الصور الثابتة القديمة والصور السينمائية الجديدة لتلك المباني. مدير عام المؤسسة السورية للخط الحجازي يكشف عن هدف خفي لإنشاء هذا الخط، يتمثل في إقامة بنية صناعية تساعد في بناء صناعة حربية تمد الجيش العثماني بالسلاح، كما كان الخط نفسه أهم وسيلة نقل للجنود العثمانيين إلى الجزيرة العربية وربطها بشكل سريع مع مراكز السلطنة. وهذا ما تم بالفعل خلال الحرب العالمية الأولى.
لكل تلك الأسباب وضع الغرب، وتحديداً بريطانيا، نصب أعينه هدف تدمير هذا الخط الحديدي، وتقطيع أوصاله وعزل السلطنة العثمانية عن بلاد العرب، والأهم عزل فلسطين عن الحجاز وبلاد الشام، وهي المهمة التي تولاها ونفذها على أكمل وجه العميل البريطاني “لورنس العرب”. وهنا يتحدث المؤرخ السوري سهيل زكّار بكثير من الحرقة ويقول: إن “تدمير خط الحجاز كان مؤامرة نفذها لورنس، ولورانس كان سيد، صحيح أن الأمير فيصل كان القائد المسمى لجيش الشمال، لكنه كان ضابطاً من ضباط اللينبي، ويتلقى الأوامر من اللينبي، فضلاً عن ذلك لم تكن له سيطرة على لورانس”.
المؤرخ الفلسطيني محمود الصمادي يروي حادثة وقعت أمام عينيه وهي حادثة تفجير محطة حيفا على أيدي العصابات الصهيونية بدعم من الجيش البريطاني.
يروي الفيلم، وعلى ألسنة عدد من المتحدثين، محاولات الدول العربية إعادة بناء الخط الحديدي الحجازي، وهي محاولات كلها باءت بالفشل، منذ عام 1945 وحتى يومنا هذا. فما دمره البريطانيون بسنوات قليلة عجز العرب أجمعين عن إعادة بناءه طوال أكثر من خمسة وستين عاماً. ومن المفارقات التي تنتمي إلى الكوميديا السوداء في هذا الخصوص ما يظهره الفيلم من مقابلة للإعلامي السوري الفلسطيني الأصل فايز قنديل الذي يقول إنه عندما بدأ عمله كمعلق في إذاعة صوت العرب، في حقبة الجمهورية العربية المتحدة، كان أول خبر صاغه هو خبر عن اجتماعات بين مسؤولين سوريين وأردنيين وسعوديين حول إصلاح وإعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي، وبعد أربعين عاماً عندما تقاعد من عمله كان آخر خبر قرأه كان عن اجتماع بشأن إصلاح وإعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي. كل هذه الأعوام مضت ومازالت الاجتماعات بهذا الشأن مستمرة، ومازال الخط الحجازي على حاله، مدمراً ومقطع الأوصال. مهملاً وغائباً إلا عن ذاكرة من عملوا به وقادوا عرباته. والذي عرض الفيلم مقابلات مع عدد منهم، ومن بينهم عزيز القاسم سائق القاطرات البخارية الذي يتحدث بإسهاب عن هذا الخط من حيث عدد قاطراته، ومحطاته، ومواصفاته، والخدمات التي كان يقدمها للركاب، والبضائع التي كان ينقلها. كما يتحدث عن جده الذي كان معتمد أمين خزنة في حيفا أيام العهد العثماني. والذي كان يخرج من حيفا إلى المدينة المنورة ليوزع الرواتب على الموظفين. وكانت رحلته تستغرق خمسة عشر يوماً. أما والده فكان “مدير جر” في الخط الحديدي بين حيفا والمدينة والشام. كما يروي عن والد زوجته الذي علم أن أسمهان كانت معه في القاطرة قادمة من حيفا متوجهة إلى مدينتها السويداء. وكيف كانت ترتدي زي ضابط إنكليزي برتبة نقيب، مما يكشف على نحو غير مباشر عن علاقة أسمهان بسلطات الانتداب البريطاني. كما يتحدث عن معمل بناء القاطرات، الذي يظهره الفيلم، في منطقة القدم والذي كان يعمل فيه نحو ألف وخمسمئة عامل في الثلاثينات من القرن المنصرم. مما يعزز الفكرة القائلة بأن أحد أهداف السلطان العثماني من وراء إقامة الخط الحديدي كان تشييد بنية صناعية تدعم الصناعات الحربية. أما محمد بركات لطيف، سائق القاطرة، فنجده وهو ينظف إحدى القاطرات المتبقية وكأنها فلذة كبده. ولما لا، فهذه القاطرة كما يقول هي التي قضى عمره كله عليها، إن فيها نبضه ونبض أولاده، و نبض من أبيه. لقد ولد في هذه القاطرة وتم غسله في مياهها الساخنة، وكانت “الضرة الودودة لزوجتي”، وهنا يغرق هذا السائق في الحنين والذكريات والحزن والأسى على هذا المصير الذي آلت إليه هذه القاطرة، لدرجة يستشعر معها قائلاً: “عندما ينشطر الصبح بقبلة مودعة تفجر فيّ الحياة. وفي المساء تشم رائحتي فإن فاحت رائحة قاطرتي ضمتني وأعلنت بهجة عودتي”. بينما يتحدث أحد أهالي المدينة المنورة عن حنينه لتلك الأيام حيث كان القطار يأتي من الشام إلى الحجاز محملاً بالفاكهة الطازجة، إلى جانب المكدوس وزيت الزيتون والفستق والبندق. أما غياث رمضان مصور وموثق الخط الحديدي الحجازي فيقول وهو يقف بالقرب من خط حيفا درعا، إن هذا الخط الممتد من حيفا إلى درعا بني خلال عامين فقط، مابين 1903 و 1905. يتخلله سبعة أنفاق وستة عشر جسراً. وهذا مؤشر بالغ الأهمية إذا ما قارناه بالوقت الذي يستغرق بناء نفق مثل الذي بني قبل أعوام قليلة في ساحة الأمويين في دمشق والذي استغرق بناؤه ست سنوات. إنه ببساطة مؤشر على درجة التخلف التي وصلنا إليها.
![]() |
المسافر الذي قطع تذكرة في بداية الفيلم ليسافر في قطار الخط الحديدي الحجازي وجلس على المقعد يقرأ الجريدة في انتظار موعد السفر، هاهو مع نهاية الفيلم يطوي جريدته ويمضي مسافراً مشياً على قدميه فوق سكة القطار الذي لم يعد له وجود، لنكون بهذا أمام المشهد الأخير للفيلم.
لقد استخدم المخرج مشاهد تمثيلية لهذا المسافر. كما استخدم صوراً سينمائية أرشيفية لقوافل الحج على الجمال وهي تقطع الفيافي والصحارى وتتعرض للخطر من قبل البدو. وصوراً من الحرب العالمية الأولى، ومن مرحلة الانتداب البريطاني والاستعمار ورموزه. وكذلك صوراً للمسئولين العرب والأتراك. كما استخدم الخرائط والصور الثابتة الأرشيفية التي تبين عملية بناء الخط الحديدي. وصوراً للوثائق المتعلقة بمجمل المشروع من تمويل وغيره. وصوراً للسكة الحديد والقاطرات والمحطات التي كانت تعج بالمسافرين. كما عرض الفيلم صوراً أرشيفية للخط الحديدي وقد تم تدميره وتقطيع أوصاله، ولعربات القطار وهي مدمرة ومنقلبة على قارعة الطريق. صوراً تثير لدى المتفرج العربي ذي الحس الوطني الكثير من الحسرة والألم على المصير الذي آل إليه أحد أهم المشاريع التحديثية العربية والإسلامية.
لا يلجأ المخرج قيس الزبيدي إلى استخدام التعليق في الفيلم الوثائقي، كما هو متبع في معظم الأفلام الوثائقية التي تبثها قنوات التلفزة، فهو يؤمن بأن الصورة، إلى جانب المقابلات، كافية لنقل المضمون وإيصال المعنى ولا حاجة للتعليق. وهو محق في ذلك. وكانت النتيجة أن أخرج فيلماً استعادياً لمرحلة مهمة من التاريخ الحديث للعرب والمنطقة و ما شهدته من أول تجربة نهضوية تحديثية تمثلت في بناء الخط الحديدي الحجازي، تجربة أجهضها الغرب بمختلف الوسائل. إنه صفحة سينمائية جديدة تضاف إلى الصفحات السينمائية التي تناولت تلك العلاقة المعقدة بين العرب والغرب.