في تجربة المخرجة ليانا بدر
عندما باغتت الروائية الفلسطينية ليانا بدر المهتمين بالسينما الفلسطينية بفيلمها الوثائقي الأول؛ «فدوى حكاية شاعرة من فلسطين»، عام 1999، كانت كمن يرمي حجراً في بئر التكهنات، والتساؤلات، إذ ثمة من رآى الأمر خارجاً عن المألوف، والمتوقع، خاصة من قبل سيدة أثبتت حضورها في مجالي القصة والرواية، ومن قبل في مجال الصحافة، ولم يكن ثمة ما ينبئ، أو يشي، بانعطافتها الحادة باتجاه السينما، حتى لو تسلمت أعلى المناصب الإدارية المتعلقة بالسينما الفلسطينية الرسمية (مدير عام السينما، في وزارة الثقافة والإعلام، في السلطة الفلسطينية)، إذ ليس من الضرورة للمدير أن يكون مخرجاً.
بينما اعتقد البعض أن الأمر «نزوة» مدير، واستعماله لوظيفته، وموظفيه، وسلطاته، وسرعان ما يطويه النسيان، ويغدو نقطة تضمحل في فيض الذاكرة، أو صرخة في واد سحيق، توهماً أن ليس ثمة من همّ أو اهتمام أصيل بالسينما، من حيث المبدأ!..
![]() |
مع ذلك، وعلى الرغم منه كله، فقد أثبتت ليانا بدر أنها جادة أكثر مما يمكن أن يتوقع الآخرون، وأبعد من وظيفتها الإدارية، ومضت في دروب تحقيق الأفلام الوثائقية، سنة بعد أخرى، وفيلماً إثر آخر، دون أن تفلت اهتمامها الأساس والأول المتمثّل بكتابة الرواية، والقصة، والكتابة للأطفال، بل والشعر أيضاً: «زنابق الضوء».
اليوم، وبعد مضى أكثر من عقد من السنوات على فيلمها الوثائقي الأول، بات لدى المخرجة ليانا بدر، فيلموغرافيا يمكن التوقف أمامها، وأفلاماً لا بد من مشاهدتها، وتأملها، والكتابة عنها، خاصة وأنها حافظت على تلك الروح النسوية الأثيرة، المهتمة بالمرأة الفلسطينية؛ شؤونها وشجونها. همّها واهتمامها. قضاياها ونضالاتها. مع انتباهة للطفل الفلسطيني؛ عالمه، وأحلامه، ومعاناته..
بدأت مسيرة المخرجة ليانا بدر مع فيلم «فدوى.. حكاية شاعرة من فلسطين»، عام 1990، وهو وثائقي طويل (مدته 57 دقيقة)، يأتي كما «بورتريه للشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان، وذلك عبر حديث مطول للشاعرة، يأتي حافلاً بتنويعات شخصية للشاعرة، في لحظة بوح حميمة ونادرة.. فيغدو الفيلم رواية بصرية محكية عن تجربة فدوى طوقان، تلك التجربة المميزة، النادرة، الممتدة على سبعة عقود من الزمن، والتي تعتبر خلاصة لمأساة المرأة الفلسطينية بداية، ومن ثم المرأة العربية عامة، وحقيقة مقدرتها على التحقق والنجاح، كما تعتبر تجربة فدوى طوقان على تماس شديد وخاص مع التجربة الإبداعية العربية والفلسطينية، طيلة هذه الفترة، التي تمتد على غالبية القرن العشرين».
وجاء فليمها الوثائقي الثاني بعنوان «زيتونات»، عام 2000، وهو وثائقي متوسط الطول (مدته 37 دقيقة)، مع الفريق الفني نفسه تقريباً (تصوير: عبد السلام شحادة، مونتاج: قيس الزبيدي، موسيقى: بشار عبد ربه)، لتمضي هذه المرة من الحديث عن امرأة واحدة مفردة ومبدعة، إلى الحديث عن أربع نساء الفلسطينيات، في مواقعهن المختلفة، مع العناية التامة بالربط بين المرأة الفلسطينية، وشجرة الزيتون، التي معادلاً رمزياً قوياً، وهو ما جعل المخرجة تمنح اسم الفيلم «زيتونات».
| ||
من «أم أحمد»: الفلاحة الفلسطينية، في قرية «سلفيت»، والتي تتحدث الزيتون وفوائده، والعمل المضني للحفاظ عليه، في مواجهة ما يتهدده من أنواع مختلفة من أشكال المصادرة خاصة بحجة الحاجة إلى الطرق الالتفافية تشق الأراضي، وتستوجب تجريفها وبالتالي اقتلاع أشجار الزيتون.. إلى «سامية حلبي»: الفنانة التشكيلية الفلسطينية المقدسية، يمتد الحديث، ويتنوع، ويأخذ أشكالاً متصاعدة، غلى الدرجة التي نرى قدرات المرأة الفلسطينية المناسبة للتعبير عن حالتها الخاصة، وعن ارتباطها بالشأن العام، ومشاركتها الفعالة سواء بالعمل، أو الابداع.. بالمواجهة والمقاومة، والتشبث بالأرض، والدفاع عن أشجار الزيتون، بشتى السبل.
ومع فيلمها الثالث: «الطير الأخضر»، عام 2002، وهو وثائقي (مدته 52 دقيقة)، تنتقل إلى عالم الأطفال الفلسطينيين، أولئك الذين وعلى الرغم وجود الاحتلال، وعلى الرغم من ممارساته القاهرة، إلا أنهم لايفلتون أحلامهم، وسيجدون الكثير من الطرق والسبل للتعبير عن أحلامهم، ومحاولة ممارستها، ولو بالقليل والمحدود، لكن الأحلام ذاتها تبقى غير محدودة أعلى من أسوار الاحتلال، وأقوى من قبضته.
وإذا كان العام 2002، قد شهد إنجاز فيلم «القدس في يوم آخر/ عرس رنا»، الذي جاء بتوقيع المخرج هاني أبو أسعد، وهو فيلم روائي طويل (مدته 90 دقيقة)، عن قصة لها، وقامت هي بالاشتراك مع السيناريست إيهاب لمعي بكتابة السيناريو، فإنها سرعان ما ستعود إلى الفيلم الوثائقي، من خلال فيلمها «يوميات حصار كاتبة»، عام 2003، والذي يبدو (لأننا لم نشاهده، بعد)، محاولة لتقديم صورة ذاتية عن نفسها، خلال أيام الحصار، البشع، وسيء الصيت، الذي تعرضت له مدينة رام الله، حينها.
وسيلفت نظرنا أن الفيلم جاء من تصويرها، الأمر الذي يدلل بشكل أو آخر على اصرارها على تعلم تقنيات صناعة الفيلم، خاصة التصوير بنفسها، لتكون الكاميرا عينها المبصرة، وهو أمر جدير بالتقدير، حقاً. فأن تسعى لتعلم التصوير، وتقوم بنفسها بذلك، هو مما سوف يمكّنها، كما سنرى في فيلمها اللاحق، من الذهاب إلى ميادين الاحداث والوقائع، والتصوير المرافق لعمليات المراقبة، أو التأمل، أو الحوار والنقاش مع الشخصيات المستهدفة.
أما فيلمها الأحدث؛ «مفتوح مغلق»، والذي حققته عام 2006، وهو فيلم وثائقي متوسط الطول (مدته 42 دقيقة)، فهو لا يبتعد عن قضايا المرأة الفلسطينية، إلا بمدى تداخلها مع مجمل قضايا الشعب الفلسطيني، الراهنة والموجعة، خاصة جدار الفصل العنصري؛ هذا الجدار الذي يتمطّى سادراً في غيّه، ذاهلاً عن أشكال المعاناة العنيفة التي يعيشها الفلسطينيون على حافته. لا يأبه بما يولّده من آلام وحسرات وعثرات، ومن اضطرار في كل لحظة للتحايل عليه، وعلى بواباته، ومعابره، وعلى إطلالته الشاهقة، التي تتصاغر أمامها أحلام الفلسطيني، إلى حدّ أن تتكثف في إمكانية العبور للوصول إلى مدرسة، أو جامعة، أو عمل، أو مشفى، أو أرض، أو مزرعة، أو زيارة صديق أو قريب.
في أحدث أفلامها الوثائقية، تذهب المخرجة الفلسطينية ليانة بدر إلى هناك. إلى حافة الجدار. كأنما تريد أن تعدّ البوابات واحدة واحدة. رقماً رقماً، وهي تعرف أن وراء كل بوابة ألف حكاية فلسطينية وحكاية، وأن عند كل رقم ألف وجع فلسطيني وألم. والجدار صادٌّ ذاهل لا يسمع إسمنته صراخاً، ولا يلتفت لهمسه.. وجنده ماضون في تنفيذ أوامر، لا تمسها نبرة من إنسانية، ولا تنبض فيها وخزة من ضمير.
رواية الحياة اليومية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، باتت رواية العبور من البوابة، واجتياز الجدار، من ناحية إلى أخرى.. كأنما بات الجدار هو بحر الظلمات ذاته، القادم من أساطير الأولين، وأهوال ما يمكن لمخيلتهم أن تنسجها. والمخرجة ليانة بدر، الروائية أصلاً، تطارد تفاصيل الحكاية، سواء قدّمها طفل صغير، أو فتى ناهض، أو صبية يافعة، وصولاً لشهقات العجائز، ودمعاتهن التي تتسرب في حفر أخاديد، نحتتها مرارات الأيام على الوجوه.
|
الفيلم عبارة عن حفنة من تلك الحكايات المريرة التي يعيشها الفلسطينيون، بشتى شرائحهم العمرية والجنسية، وقطاعاتهم المهنية، وتنوعاتهم الاجتماعية. وتختار المخرجة تقسيم فيلمها على مقاطع متتالية، يحمل كل منها عنوانه الخاص، مانحة الأولوية لما يمكن أكثر تأثيراً في وجدان المشاهد الغربي والعربي على السواء. لذا نراها تبدأ فيلمها بعنوان «مفتوح مغلق: إلى المدرسة»، وتنهيه بعنوان «مغلق مفتوح: إلى الأرض»!..
ما بين مستوطنة وجدار، تتبدى رغبة الاحتلال في مصادرة مستقبل الفلسطيني، ومحو ماضيه، وتتجلى ممارساته الذاهبة إلى توطيد تلك الفكرة الصهيونية المنكرة لوجود الفلسطيني أصلاً. فإن أوجدته الوقائع، فعلى جند الاحتلال أن يقوموا بمحو آثاره، وقطع الطريق على مستقبله، مقدمة لطرده من المكان، وليذهب خلف النهر!..
لا يتكلّف فيلم «مغلق مفتوح»، ولا يدّعي بأكثر مما يريده. إنه يطارد المزيد من تفاصيل الحياة الفلسطينية اليومية، في قرى وبلدات الضفة الغربية المحتلة. يركّز على الجوانب الإنسانية المذهلة، التي تتوالد على حافة الجدار، وأمام البوابات، والمعابر.. قصص ستبدو في كثير من تفاصيلها مما هو متجاوز للمخيلة، ولكنها تعيد المشاهد إلى الواقع، بأقسى صوره.