قراءة علمية معمقة لفيلم “الرسالة” 1/3:
من تخييل التاريخي” إلى مجادلة الحاضر
أحمد القاسمي – تونس
يبدو فيلم “الرسالة” 1 موضوع مفارقة محيّرة فبقدر ما كان يعرض على الشاشات دوريّا، كان النقد يتحاشى الخوض في خصائص تشكيله وطبيعة مع محيطه الثقافي عامة، حتى بدا لنا كالداخل ضمن دائرة اللامفكر فيه يُسكت بتواطؤ نقديّ مضمر على مسلماته وأطروحاته ويُترك جدله مع وحداته الثقافيّة خارج إعادة التقييم. وما يزيد الحاجة الملحة إلى تسليط الأسئلة على هذا الفيلم التحولات العميقة التي تشهدها مناهج النقد وانفتاحها على مختلف العلوم الإنسانيّة. فقد شهد تحليل الخطاب السينمائي على أيامنا تحوّلا عميقا فقطع مع مفهوم الفيلم باعتباره بنية مغلقة مكتفيّة بذاتها وصادر على أنّ “المعنى ينبثق من الصلات المبرّرة بين العلامات والعوامل الاجتماعيّة” 2 فجعل المتفرّج المشروط بمجمل من الوحدات الثقافيّة بالنتيجة نقطة العبور لاحتمالات المعنى وفق محورين يتجه أولهما صوب الأثر ليتبيّن كيف يتضمّن الفيلم متفرّجه وكيف يفتح أمامه مسارب للمعنى ويسدّ أخرى ليوجه تأويله الوجهة التي يريد. ويتجه ثانيها صوب الحقل الاجتماعيّ للتقبّل وسياقه الثقافيّ ليتبيّن وطأته على النص وعلى احتمالات دلالاته. ذلك أنّ الحدث الفيلمي نصّ يتنزّل ضمن سياق لا يفهم خارجه.
ضمن هذا الأفق المنهجي والمعرفي نحاول أن نختبر مفهوم المتفرّج الضمنيّ القائم طيّ فيلم “الرسالة” في ما يشبه طاقة كامنة تفعّل حالما يُشاهد الفيلم كالمشهديّة واختيارات التأطير وسلّم اللقطات لتقصيّ ما تولّد من احتمالات المعنى وما تعقد من جدل مع سياقها الثقافي والحضاري.
I) بناء الحبكة وتوجيه التقبّل نحو القراءة الانفعاليّة
يصدر العقاد في خلفياته الإخراجيّة عن التصور الهوليودي المبهر3 فاقتضى ديكورات ضخمة تدفع انتظارات المتفرّج نحو المشهديّة إنشائيّة الفيلم نحو والإدهاش والإيهام تأسيسا لخطاب سينمائي يؤثر فيسحر أكثر ممّا يجادل ليقنع سبيله في ذلك دقة في بناء الحبكة. فممّا يميّز الفيلم الهوليودي نمو الأحداث عضويّا من رحم الصراع وانتظامها وتدرجها حسب منطق خطيّ يجعل الصورة تمثيلا عضويّا يحدّد مواضع الأحداث وأزمنتها، في لحظات تكاملها أو تعارضها 4 ويكفل العبور من الوضعيّة العبور من الوضعيّة المنطلق (و) إلى الوضعيّة النهائيّة (و’) ضمن مسار حركة يتخذ شكل و ف و’ (وضعيّة ?› فعل ?› وضعيّة’)5 . ويأتلف هذا الشّكل بدوره من أشكال جزئيّة وأخرى فرعيّة مشابهة له في البنية تعتبر هذه الصّورة نموذجا للسينما الواقعيّة.. ويحدّد هذا النموذج استجابة المتفرّج فيتعاطف مع بعض الشخصيات ويتوحّد بها ويتخذ موقفا سلبيّا من أخرى مستعيرا آليات التراجيديا التطهيريّة.
لقد مثّل مسار الدعوة الإسلاميّة سندا يغذي هذا التعطّش إلى الحبكة الدراميّة ويجعل الأحداث تتجه رأسا إلى نهايتها والشخصية تندفع اندفاعا صوب هدفها المعلن. فالأمر يتعلق بنشأة الرسالة المحمديّة لمقاومة ما يحل بمكة من فساد وكفر ومجابهة كل أنماط العراقيل من أجل أعلاء كلمة الحق6 . ويمثل الأمر الإلهي بالمجاهرة بالإيمان الحدث القادح 7 الذي يفتح بالفيلم على وجوه من الصراع والمواجهة وفق الشكل و ف و’ (وضعيّة ?› فعل ?› وضعيّة’) فتنشأ متجهات فرعيّة تتوازى أو تتضافر مثل ذلك الذي يشكّله مسار سميّة بنت الحُباط أم ياسر بن عمّار (و: الوثنيّة ?› ف: الإيمان ومؤازرة ابنها ياسر?› و’: الشهادة ) أو الذي يشكله مسار أبو سفيان بن حرب (و: من أصحاب الجاه والمصلحة في بقاء مكة وثنيّة ?› ف: الاستماتة في الدفاع عن مصالحه وفي التصدي إلى الإسلام ?› و’: انفضاض أنصاره من حوله وتسليمه بالدين الجديد بعد فتح مكة). تبني هذه المتجهات الفرعيّة بما تشكل من نسيج الشكل الأكبر المؤسس للفيلم (و: نشأة الرسالة المحمّدية غريبة محاصرة ?› المواجهة والعمل على نشر الدعوة ?› و’: انتصار الإسلام والمسلمين).
أما مرحلة نشرة الدعوة الممتدّة بين الخروج من مكة والعودة إليها فلبت حاجة الفيلم إلى تجسيد المواجهة بين قطبين هما المؤمنون من ناحية ويمثله صحب الرسول وبعض من أهله كعمار بن ياسر وأبي طالب ويتزعمه حمزة ابن عبد المطلب والكفرة من ناحية ثانيّة سادات قريش من أصحاب الجاه والمصلحة الاقتصاديّة في بقاء الوثنيّة ويمثله وأبو لهب وأبو جهل أبو سفيان وتتزعمه هند بنت عتبة. ذلك أن “جميع الأشياء مرتبطة في السيناريو الذي تكتب، لا شيء يحدث مصادفة” 8 يعلن سيد فيلد.
لقد صُدّر الفيلم بمشهد قدّاس يقيمه الوافدون من حجيج مكة لآلهتها فيندفع حشد من القريشيين لتقديم القرابين إلى الآلهة التي تنتصب واقفة أمام الكعبة وانتهى بوصول موكب الرسول إليها بعد عقد الهدنة مع قريش، فتدمّر تلك الأوثان التي جيء بها في بداية الفيلم وينادي بلال من فوق الكعبة أن الله أكبر معلنا انتصار الإسلام وتبليغ الدعوة.
![]() |
بين بداية الفيلم (وصول وفود الحجيج إلى مكة وتقديم القرابين) للآلهة ونهايته (وصول الرسول وتدمير المسلمين للأوثان) يتشكل مسار الفيلم |
وبين البداية والنهاية تتضافر الأحداث لتشكّل متّجها (Vecteur) يندفع إلى الأمام على هيئة مسار ذلك شأن البدايات والنّهايات في النموذج الهوليودي فهما “دائرتان متّحدتا المركز، مرتبطتان بعضهما ببعض، متوحّدتان إلى الأبد ومتعارضتان إلى الأبد” 9
على هذا النحو منح النموذج الهوليودي في بناء الحبكة الدراميّة وما يستدعي من نموّ عضوي أحداث الفيلم قدرة تأثيريّة متصاعدة تفعل في المتقبّل الضمني بكفاءة فلا تفسح المجال للمتقبّل للتفكير بتلاحق أحداثها وتسارعها بقدر ما تهيّج وجدانه. وكان التقطيع الفني وتدرج سلم اللقطات موجهات تشكيلية تركز على اللقطات القريبة لتبرز ما يرتسم علة وجوه المؤمنين من المعاناة في الشطر الأول من الفيلم لتشكل صورة تأثيرا ذات طاقة انفعاليّة تدفع موترة لشجن المتفرّج وباعثة به إلى الواجهة ثم لمّا امتلك المسلمون أمرهم مال التقطيع إلى اللقطة المتوسطة ليشكل صورة حركةً تعمل وسعها لتنتزع من المتفرّج إعجابه بقدرة المسلمين على التحول من الخضوع إلى امتلاكهم زمام أمرهم وسيطرتهم على الفضاء وقدرتهم على الفعل فيه
![]() |
العبور من اللقطة الكبيرة إلى اللقطة المتوسطة عبور بالمتفرّج من التألم لمعاناة المسلمين إلى الإعجاب بقدرتهم على الفعل والمواجهة.
الهوامش
1 فيلم “الرسالة” من إنتاج مصطفى العقاد وإخراجه، 1976 ضمن نسخة عربيّة أسند بطولتها لعبد الله غيث و منى واصف وأخرى انكليزية تولى بطولتها كل من انتوني كوين وأيرين باباس
2 لمزيد من التوسّع أنظر Jean-Pierre Esquenazi, Le film, un fait social, Réseaux n 99_ CENT/Hermès Science Publictions P26.
3 بلغت تكلفة إنتاج الفيلم للنسختين العربية والأجنبية حوالي 10 مليون دولار أمريكي.
4 Gilles Deleuze, cinéma I: L’image-mouvement, les éditions de minuit, Paris 1982 P 209.
5 انظر مفهوم الصّورة فعلا (l’image-action) عند ديلوز ضمن الأثر نفسه ص 196.
6 يوجه سيد فيلد، رائد كتابة السيناريو في هوليود الكتاب إلى خلق المواجهات في الفيلم إذ “يعكس كل عمل درامي صراعا, وإذا عرفت حاجة الشخصيّة فبإمكانك أن تخلق العقبات أمامها وصولا إلى ذلك الصراع” مقدّرا أن قانون نيوتن القائل بأن “لكل فعل ردّ فعل مساوي له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه” ينطبق على باء الفيلم تماما” وعلى خلاف السينما الأمريكيّة تميل السينما الحديثة التي نشأت مع الواقعيّة الإيطاليّة الجديدة واكتسحت السينما الأوروبيّة ومثلت خلفيّة لسينما المؤلف إلى الحركة فيما يشبه النزهة أو حركة مساحات الزجاج فتتواتر بين ذهاب وإياب يفتقد إلى الهدف وتفقد الأحداث بالنتيجة ترابطها العضوي فتهمش الحبكة ويميل الفيلم إلى التشظيّ. لمزيد من التوسّع أنظر سيد فيلد، السيناريو، ص 34 وانظر أيضا: Gilles Deleuze, cinéma I: L’image-mouvement, PP 279/ 283.
7 يشير سيد فيلد إلى الحدث القادح بمصطلح موضع الحبكة و”موضع الحبكة إنما هو لحظة في ذلك القالب من الفعل الدرامي “يعلّق” في الفعل وينسجه في اتجاه آخر” سيد فيلد، السيناريو، ترجمة سامي محمد، دار المأمون للترجمة والنشر، 1989، ص 123.
8 سيد فيلد، السيناريو، ص 35 ويقول أيضا ” قد لا تقتنعون بفكرة البداية والوسط والنهاية. وقد يقول أحدكم إن الفنّ كالحياة ليس أكثر من لحظات مستقلّة معلقة في وسط كبير لا بداية له ولا نهاية. أنا لا أتفق مع هذا الرأي. أليست الولادة والحياة والموت بداية ووسطا ونهاية؟” ص ص 26/ 27.
9 سيد فيلد، السيناريو، ص75