السينما الإيرانية: بين أطفالها، وشيوخها

يتساءل السينمائيّون، النقاد، والصحفيون العرب عن أسباب النجاحات المُتوالية للسينما الإيرانية، تواجدها المُنتظم في التظاهرات، والمهرجانات العالمية، واحتفاء المتفرج الأجنبي بها، الهاويّ، والمُحترف على السواء.
وقد تنوّعت التفسيرات، وتمحورت حول النقاط “الاحتمالية” التالية:
ـ خطةٌ سياسيةٌ للالتفات على النظام الإيراني المُتشدد، وإجباره على الانفتاح، والخروج من عزلته عن طريق الاهتمام بسينماه، وسينمائيّيه، وإحراجه في بعض الأحيان تحت شعارات حقوق الإنسان، وحرية التعبير.
ـ موضةٌ افتعلتها المجتمعات الغربية كي تُسلي نفسها، وتتخلص من ضجرها.
ـ لا تعكس الجوائز التي تحصل عليها بعض الأفلام استحقاقاً حقيقياً، وتهدف إلى تجميد تطور السينما الإيرانية، وإيقاعها في حبائل الرضى عن الذات.
ـ فضول المتفرج الغربي لمُشاهدة سينما قادمة من بلدٍ إسلاميّ متشددٍّ في صراعٍ مُعلنٍ مع الغرب، قيمه، وأخلاقياته.
ـ محاباة سينمات العالم الثالث، ومنها السينما الإيرانية، وبحث المتفرج الغربي عن الغرائبيّة فيها.
ومهما تعكس هذه الآراء من وجهات نظرٍ “ذاتية”، يتوّجب علينا احترامها، لأنّ الجمهور في مفهومه العريض، والواسع، ومنه المحترف، لا يمتلك بأيّ حالٍ ذوقاً موحداً، ومتوافقاً، ومن المنطقي بأن تتفاوت الحساسيات في استقبال هذا الفيلم، أو ذاك، وهو أمرٌ إيجابيّ بحدّ ذاته يبرهن على حيوية السينما، وتنوّعها كما المتفرج، واختلافه.
ومن هذا المُنطلق، يهمني اليوم استعراض مجموعة من مواضيع السينما الإيرانية، ومن خلالها تتضحُ أصالة هذه السينما، وخصوصيتها.
ومن شاهد أفلام عباس كياروستامي، أبو الفضل جليلي، أمير نادري، ..وغيرهم، يعرف مسبقاً، بأنّ الاقتراب التسجيليّ هي إحدى الخصائص الأولية للسينما الإيرانية، وتتأرجح بعض أفلام هؤلاء على الحدود مابين التسجيلي، والروائي/المُتخيل.

عباس كياروستامي

ونعرف بأنّ التطرّق للواقع الاجتماعي بكلّ جوانبه، وأشكاله تجربة خطيرة في المجتمعات التي لا تسمح أنظمتها بالكشف عن مكامن الضعف فيها، ولهذا، يلجأ السينمائيون الإيرانيون إلى الالتفاف عليها عن طريق بناءٍ روائيّ يخففُ عادةً من وجع الموضوعات الحساسة، ويجعلها طيّعة المُعالجة، وقابلة للهضم.
والأفلام التسجيلية الخالصة ـ كما عرفناها في سينماتٍ أخرى ـ نادرة تقريباً في السينما الإيرانية، فقد أنجز كلّ مخرجي السينما الروائية أفلاماً تسجيلية، ولحسن الحظ، لم يسيطر أسلوب التحقيقات الصحفية/الريبورتاج على الإنتاج السينمائي التسجيلي في إيران.

عالم الطفولة، والمراهقين

يُعتبر العمل مع الصغار في السينما الإيرانية حجةً، ومدخلاً للحديث من خلالهم عن المجتمع بأكمله، وقد أبهرنا هؤلاء بصدقهم، تلقائيتهم، ومهارتهم في الخلط ما بين الحقيقة، والتمثيل، ونسيان الكاميرا في بعض الأحيان، ويعرف المُحترفون مدى الطاقة التي يجب على المخرج بذلها في العمل معهم.
في فيلمه القصير “الاستراحة” (11 دقيقة، 1972) يقدم “عباس كياروستامي” صبياً صغيراً يُعاقب في المدرسة لأنه حطم بكرته زجاج إحدى النوافذ، وفي طريق العودة إلى بيته، تمنعه لعبة كرة قدم بين أولاد صغار من المرور، فيسلك طريقاً آخر يقوده إلى ضواحي المدينة.
وفي “المسافر”( 72 دقيقة، 1974)، يُفضل “قاسم” بأن يقضي وقته في شوارع القرية يلعب الكرة مع أصدقاء المدرسة عن البقاء في المنزل، وإنجاز وظائف المساء، وعندما يعرف بأن الفريق الوطني سوف يلعب في “طهران”، يريد الذهاب لمُشاهدة المباراة، يسرق والديه، يذهب لخداع زملائه في المدرسة، ثم يقرر بيع مستلزمات اللعب بالكرة لفريق المدرسة حتى يجمع المبلغ الضروري لمهمته، وثمن بطاقة الدخول إلى الملعب.
وفي “وظائف المساء” (86 دقيقة، 1990) يتحدث التلاميذ الصغار عن الوظائف التي عليهم أداءها مساءً مع أنهم يفضلون مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة التي يعرضها التلفزيون .
في “أيدي روبابة الصغيرة” (28 دقيقة، 1996) للمُخرجة “ناهد رضائيّ”، تعيش “روبابيه ساميزادة” في قرية “شاهران” شمال إيران، يذهب أبوها، أخوها، وأخواتها إلى المدينة، وتبقى وحدها مع والدتها تساعدها في الأشغال المنزلية، ولكنها أيضاً تلميذةٌ مجتهدة يُسعدها الذهاب إلى المدرسة مع صديقتها المُقربة.
وأطفال قرية “سانام” في “الصغار يحكون قصصاً” (22 دقيقة، 1996) لمخرجه “بارفيز كيميافي” عليهم أن يصفوا في وظائفهم ما هي المواضيع الغالية على قلوبهم، قريتهم، عائلتهم، ألعابهم، عمل أبائهم، رحيل أصدقائهم، زملائهم في الصف، وأخوتهم الطلبة إلى المدينة، ولكن أيضاً أحلامهم، وأمانيهم..
وفي “أنا، وعصافيري” (27 دقيقة، 1996)، لمخرجه “فارهاد ميهرنفار” تقع على الأطفال مسئولية تنظيف الأفران المُخصصة لإنتاج الفحم، وهذا العمل المضني لا يدع لهم أيّ وقتٍ للراحة.
في “السفر” (33 دقيقة، 1972) لمخرجه “بهرام بيزائي” مغامرات صبيّان صغيران، أصدقاء الحياة القاسية، واحدٌ منهما يبحث عن والديه.
“مدرسة سيد غيليش إشان” (22 دقيقة، 1996) لمخرجه “فارشاد فادايان”، صامدةٌ في مواجهة إغراءات المجتمع الحديث، هذه المدرسة التي تأسّست منذ قرنين من الزمان هي مثل قلعة حصينة خارج الزمن قابعة وسط الصحراء التركمانية، وحتى اليوم يأتيها الصبيان الصغار ليدرسوا، ويتعلموا القراءة، والكتابة، وبعد الدروس، وفي طريق العودة، ينطلقون في مرحٍ صبيانيّ ليفجروا طاقاتهم الجسدية، والنفسية المكبوتة.
وفي “معمل القرميد” (40 دقيقة، 1981) لمخرجه “محمد رضا مقاداسيان”، نتعرّف على عمل الأطفال في معملٍ للقرميد بضواحي إيران، والظروف المعيشية اللا إنسانية التي يعانون منها.

الإنسان، الزمن، والشيخوخة

في “حدثٌ بسيطٌ جداً” (80 دقيقة، 1973) لمخرجه “سهراب شهيد ثالث”، يعيش “محمد” البالغ عشر سنوات من عمره في قريةٍ بالقرب من شاطئ بحر قزوين، ويعمل والده صياداً بدون رخصة رسمية، ولا يكسب دخلاً كافياً لتحمّل احتياجات عائلته، وما يكسبه، ينفقه في حانة القرية، والدة “محمد” مريضة جداً، وعلى الرغم من ذلك تهتم بالمنزل، ولكن المرض يتغلب عليها، فتموت بهدوءٍ، وصمت.
“طبيعة ميتة” (89 دقيقة، 1975) لنفس المخرج، تنقلب حياة مراقب عجوز لحواجز قطار محليّ رأساً على عقب في اليوم الذي يتلقى خبر تقاعده عن العمل، واستبداله بشابٍ، وعليه أن يغادر مع زوجته البيت الذي عاشا الجزء الأكبر من حياتهما، ولا يعرفا إلى أين يذهبان.

طبيعة ميتة

“ب، الحرف الأول من بجع” (27 دقيقة، 1972) لمخرجه “پرويز کيمياوي “، يعيش السيد “علي ميرزا” حياة منعزلة، وفي نفس الوقت يهتم بتعليم الأطفال الذين يعيشون في المناطق المجاورة، ويعلمهم الحروف الأبجدية عن طريق الإشارات، ولكنه عندما يصل إلى الحرف “ب” يهزأ الأطفال من الرجل المسكين، وفي يومٍ ما، يعطيه أحدهم بجعة كمثال للحرف “ب”، يشجعه للخروج من عزلته، كي يذهب، ويلتقي بالبجع.
وفي “علاقة قصيرة” (10 دقائق، 1999) لمخرجه “مسعود بقشي”، تصعد امرأة عجوز بصعوبةٍ بالغة بعض الدرجات المؤدية إلى الحياة اليومية الزاخرة خارج المبنى الذي تقطن فيه، وتعود مرة أخرى إلى وحدتها، وانتظارها الأخير.
وفي “قصة حذاء آخر” (25 دقيقة، 1998) لمخرجته “بيروز كالانتاري”، لا تكفي مهارة، وحذق صانع الشباشب لبيع ما يصنعه في السوق الشعبي القريب من مسكنه .
المهن الحرفية مهددة بالانقراض أمام سيطرة الآلة، ولكن السينمائية الإيرانية تتعاطف أكثر مع الإنسان من الطريقة التي يتطور من خلالها المجتمع.
وفي “منطقة محمية” (14 دقيقة، 1971) لمخرجه “أرابيك باقداساريان”، يجلب “أمات أكوات” مع صندوقه السحري “اكتشاف العالم” في القرى الفقيرة، والمُنعزلة.

***

باستعراض موضوعات تلك الأفلام، تسجيلية، أو روائية، قصيرة، أو طويلة، يتضحُ بأنّ السينما الإيرانية ابتعدت عن الأهداف التجارية “الفظة”، ولم تضع في اعتباراتها نهش عائداتٍ خرافية من شبابيك التذاكر، ولهذا، لم تقدم تنازلاتٍ لإرضاء الجمهور أياً كانت نوعيته، طبيعته، وجغرافيته.
وبدون مُواربة، أعلنت عن رسالتها الاجتماعية، الأخلاقية، السياسية، والدينية، وأثبتت بأنها ليست بغرض التسلية الجوفاء، ودغدغة أحاسيس المتفرج، ولكنها، بالأحرى، تنحاز إلى طموحاته، وآماله.
كما حرصت بأن لا تكون مصدراً للتنفيس عن أحزانه، وتعاسته، بل تعمدت تحريضه، وحثه على التفكير الإيجابي بواقعه، ولكنها لم تفرض نفسها وصيةً عليه، ولم تدّعي امتلاك الحقيقة، والحلول السحرية.
لقد حطمت بدايةً مفهوم البطولة الفردية المُطلقة، وابتعدت عن تصنيع النجوم، ومع نجاحاتها المُستمرة، أصبح الفيلم نجمها الأوحد، وعمدت إلى التصدي للسينما الهوليوودية، وتحدي إمكانياتها الضخمة بإنجاز أفلاماً فقيرة، بسيطة تقنياً، وثرية إنسانياً.
وتجلى اهتمامها بالبحث عن الأفكار، والموضوعات مباشرةً من الناس البسطاء، العاديين، والهامشيين. ويتخلق الفيلم غالباً بالترافق مع البحث عن فكرته، وبناء أحداثه، ما يُفسر التعانق الإبداعي بين الروائي، والتسجيلي، وهي في تطرّقها لموضوعاتها حرصت لأسبابٍ ذاتية، ورقابية على احترام العادات، التقاليد، والأعراف السائدة، والالتفاف على الرقابة الدينية، والمحرمات بذكاءٍ، وحذر، ولكنها كانت، وبقيت سينما نقية، صافية، تمتلك حياءها، وخجلها الشرقيّ الجميل، بدون أن تخفي جمالها، ورونقها خلف حجابٍ أسود تتقوقع فيه.
وعلى الرغم من الحزن، التعاسة، الفقر، والنضال من أجل لقمة العيش، والحياة الصعبة التي تواجهها الشخصيات في الريف، أو المدينة، الوديان، أو الجبال، تُشعرنا الشخصيات بحبٍ حقيقيّ للحياة.


إعلان