قراءة علمية ومعمقة لفيلم الرسالة 2/3

الانتماء الأجناسي للفيلم: في مشهدية الحرب ومقاصدها
أحمد القاسمي – تونس 

يمت “الرسالة” بصلة عميقة إلى أفلام الحرب فيستمد قدرا كبيرا من جماليته من بلاغتها وشروط الإنشاء فيها. والفيلم الحربيّ نمط أثير في هوليود لما فيها من مشهديّة وإشباع للإدراك البصريّ يغني عن الحوار فيعترف محرر موسوعة ألفا للسينما “ولكن للأسف تمثل الحرب عرضا”1 ويقدّر جيرار برنون (Gérard Pernon) أن قريفث (W. Griffith) أول من أسس لهذا النمط في السينما الأمريكيّة مفيدا من صور المعارك في السينما الإيطاليّة باعتبارها “عرضا بصريّا حقيقيا”2   وطوّره ثم ما فتئت هوليود تبتكر فيه جماليات جديدة.

 الحرب وتجسيد نموذج البطل الفذّ

تتخذ الحرب في الفيلم مستويين صورة المقاتل الفرد الذي يبرز من خلال المبارزات الثنائيّة كما كرّستها السينما الأمريكيّة بعد أن استمدتها من وصف هوميروس للمبارزات الثنائية بين هيكتور وهاشيل في الإلياذة 3   .  ولمّا كانت المعارك في هذه السينما تقتضي قائدا فذّا ملهما ووطنيّا صادقا يتفانى في الدفاع عن الوطن والقيم استلهم الفيلم من استشهاد حمزة بن عبد هذه الصورة وأسقطها فإسلامه بعد مواجهة أبي جهل الذي نكّل بالرسول وصحبه وحسن بلائه في الحروب وموته التراجيدي وأكل هند بنت عتبة من كبده أوجد فيه ذلك العنصر القار من حبكة الفيلم الحربي.

من حسن بلاء الفرد إلى روح الجماعة

مثّل اللون علامة اشتغل عليها العقاد لتوجيه استجابة المتفرّج نحو التفاعل مع جيش المسلمين فقد جعل ملابسهم ناصعة البياض متناغمة في زينتها وجعل عمائمهم، عنوان هويّتهم الإسلاميّة، متماثلة فكانت لا تدل بنصاعة لونها على صفاء التجربة الروحية التي يعيشها أصحابها فحسب وإنما تدفع المتقبل من حيث لا يشعر إلى روح الجماعة فيهم بما فيها من تضامن وتكافل ووحدة للمصير. وكانت هذه الملابس، بتباينها مع محيطها الرملي الدّاكن تعطي الانطباع بسيطرة هذه الجماعة على الفضاء وامتلاكه والفعل فيه وفق رؤية واضحة مستمدة من تعاليم دينهم. وتدعمها في ذلك حركات هذه الجماعة وصيغ حضورها في الفضاء الحربي، بين مشية رصينة واثقة يتقاسمها جميع أفراد الجيش وحركات للسيوف والرماح متماثلة سرعة واتجاها.
وبالمقابل كانت ملابس آل قريش تميل إلى الألوان الداكنة الترابيّة فتكاد تتماثل مع لون الرمال وتعطي جيشهم حضورا فاترا على كثرته وتدفع المتفرّج نحو الشعور انطماس هذا الجيش وعدم فاعليّته رغم ما يحظى به من تجهيز جيّد من دروع ورماح وقبعات. ثم إن التنافر بين ملابسهم ألوانا وقيمة وسيرهم المضطرب وتنافر حركاتهم يدعّم فكرة انعدام التكافؤ بين محاربين راجلين هم العبيد وضعاف الحال وسادة يركبون الخيول ولا يشاركون في حرب تخاض من أجل الدفاع عن مكانتهم ومصالحهم الاقتصادية.
ورغم انتهاء معركة “أحد” بهزيمة المسلمين فقد جعل العقاد منها مدحيّة لخالد بن الوليد الذي سيؤمن لاحقا وسيساهم في تثبيت أركان هذه الدعوة فأبرز حسن بلائه وحنكته وجعل التنظيم الطوبوغرافي للفضاء يجرّد نصر قريش من قيمته فقد جعلهم في أسفل الجبل يغنون باللات وهبل في إشارة إلى انحدار معتقداتهم نحو الزوال وجعل المسلمين في القمة منه يوحدون الله ويجدّدون العزم على القتال في سبيل دينه في إشارة إلى صعودهم نحو المجد والقيم النبيلة. وبالجملة فقد جعل العقاد فيلم الحرب مجالا لدراسة اجتماعيّة تتغنى بقيم الإسلام وتدين معتقدات قريش. وهو ما يفتح بنا على الوظائف الإيديولوجيّة لفيلم الحرب ضمن النموذج الهوليودي واعتماد العقاد لهذا الدور دفاعا عن الإسلام ومقاومة للغزو الثقافي الغربي. 

 

التنظيم الطوبوغرافي للفضاء يستشرف المستقبل من خلال لقطتي
 الغطس والغطس المضاد بعد معركة أحد.

الحرب من إبهار المشهد إلى التوظيف الإيديولوجي

فضلا عن جانبها المشهدي  مثّلت الحرب في السينما الأمريكيّة واجهة دعاية تروّج للنظام الأمريكي ولقيمه 4. فيشير نوربار(Norbert Multeau) إلى ولادة هذا المنزع مع فيلم قريفث(W. Griffith) “ولادة أمة” (La naissance d’une nation) الذي صُوّر بمساعدة لوجيستيكيّة من الجيش الأمريكي فمثّل بداية لتحالف هوليود مع مؤسسة الحكم و” منذ هذا الفيلم أضحى التاريخ الأمريكي ، يكتب في أفلام هوليود التخييليّة ، بحيث تعكس الإيديولوجيا هذا الوطن” 5. وكثيرا ما كان الفيلم ما يدفع المتفرج إلى مراجعة قناعاته وفق برمجة معدة سلفا تعمل على ضمان التأويل بحسب صيغ يقدّرها المبدع النسيج النصّي من منطلق فعاليات أسلوبيّة وتشكيليّة فــ” يتعلّق الأمر خاصّة، بوضع الإنسان نفسه موضع تفكير، قيمَه وأخلاقَه وعالمَه والمجتمعَ الذي يعيش فيه” 6.
ووفق النموذج الهوليودي نفسه وإن اختلفت المقاصد، وظّف العقاد الحرب مقاومةً المد الغربي وغزوه الثقافي ونشرا لتعاليم الدين الإسلامي فكان فيلم “الرسالة” عملا ثقافيّا يستغل الوسيط السينمائي، وليشرح قيمه ملفتا، من خلال مكة تُفتح دون قتال بعد ممانعتها وبلال الذي ينال الحظوة والمكانة بعد أن كانت عبدا مضطهدا، إلى أن هذا الدين يحمل أمل الإنسانيّة في الخلاص. وحتى يكفل لمشهديّة الحرب بما فيها من حشود محاربين ومبارزات ثنائيّة وجماعيّة، أن تفتح مسارب للمعنى كما يقدّر، وظّف العقاد الصورة الفظيعة لتبرز اعتداء القريشيين على المؤمنين الأبرياء العزّل بغرض إدانتهم وتجريمهم شأن التنكيل ببلال لإسلامه أو تعذيب آل ياسر. وجعلها في الآن نفسه عنوانا للقصاص تغذي فكرة عدالة هذا الدين إذا ما كان هذا المعتدي نفسه موضوعا للمشهد الفظيع بعد مواجهة متكافئة استعدادا وتسليحا شأن فتك حمزة بالوليد في معركة بدر في عرض دمويّ اكتسب من خلال توظيفه بعدا تطهيريّا ينفّس على المتفرّج لما يجده في هذه النهاية من عقاب عادل.
 

يكتسب المشهد الفظيع في الرسالة بعدا تطهيريا

 
لقد بدا العقّاد متمكّنا من فنّ تصوير المعارك متصرّفا في مورده رغم ضخامتها ككثرة الممثلين، وكثرة التجهيزات الحربيّة، وتنوّع الملابس والأكسوسوارات جاعلا من المشاهد الحربيّة تشكيلا بصريّا مدهشا دالاّ في الآن نفسه يرتقي بالمعارك إلى مصاف الحروب المقدّسة التي تخاض دفاعا عن الدين وتكريسا العدالة ورفعا من إنسانيّة الإنسان فكان بهذه المعارك يخوض معركته الثقافيّة ويواجه الغزو الثقافي الغربي بالسلاح نفسه.

الهوامش

1- Encyclopédie Alpha Du Cinéma, Volume 4 : Le cinéma historique, le cinema de guerre P 4.
2- Gérard Pernon, Histoire du cinéma , éd Jean-Paul Gisserot, P 10.
3-  يبرز بارال الأصل الإغريقي للمبارزات الثنائيّة في أفلام الحروب القديمة السينما فقد استقاها  روبار ويز (Pierre- Emmaanuel Barral,) في فيلمه “هيلان طروادة” (Hélène de Troie) من وصف هوميروس للمبارزات الثنائية بين هيكتور وهاشيل في الإلياذة. ومنها تسرّب إلى أفلام الحروب القديمةPierre- Emmaanuel Barral, La guerre antique au cinéma, in Le Cinéma et la guerre, direction assurée avec Hervé Coutau-Bégarie, Paris, Commission Française d’Histoire Militaire, Institut de Stratégie Comparée, Economica, 2006 P 13.
4- إن حديثنا عن البعد الإيديولوجي للحرب في السينما الأمريكيّة لا يشير بالضرورة إلى كونها سينما ملتزمة مناضلة من أجل ترسيخ قيم المخرج كما الشأن بالنسبة إلى سينما المؤلف أو بعض أعلام السينما في أوروبا، فهي تبقى أساسا استثمارا يعمل على تأمين الربح الأقصى ـ”وحينما تفتقد الصناعة السينمائيّة الأمريكيّة إلى المواضيع الجيّدة فإنها تلجأ إلي الحرب دائما
 “Norbert Multeau, Quand la guerre est un spectacle, in Le Cinéma et la guerre, direction assurée avec Hervé Coutau-Bégarie, Paris, Commission Française d’Histoire Militaire, Institut de Stratégie Comparée, Economica, 2006 P 148
5- Norbert Multeau, Quand la guerre est un spectacle, in Le Cinéma et la guerre, direction assurée avec Hervé Coutau-Bégarie, Paris, Commission Française d’Histoire Militaire, Institut de Stratégie Comparée, Economica, 2006 P 147
6- Encyclopédie Alpha Du Cinéma, Volume 4 : Le cinéma historique, le cinéma de guerre P 10


إعلان