قراءة علمية معمقة لفيلم الرسالة 3/3
في جدل النص مع السياق الثقافي
أحمد القاسمي – تونس
لقد كان العقاد منتبها إلى دقّة مشروعه لصلته المباشرة بالمقدّس فتعامل بحذر مع النصوص الدينيّة واستند إلى النص القرآني وما صحّ من الحديث النبويّ وما دوّن من السير. وتجلّت حيطته منذ الجينيريك الذي يعلن “إن الرسول الذي اصطفاه ربه ليحمل ما لا تطيقه الجبال لأجل قدرا وأبعد منالا من أن يظهر بصورته أو ينطق بلسانه إنسان. لذلك لن يظهر الرسول الكريم لا صورة ولا صوتا ولا ظلاّ طوال أحداث هذا الفيلم”1 ويعلن موافقة مؤسسات التشريع الإسلاميّة ممثّلتين في الهيئة المسؤولة بالأزهر الشريف والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بلبنان على تصوير الفيلم وعلى مضامينه حتى يردّ العهدة في كل اختلاف إليهما 2 ويطمئن المتفرّج .
ورغم هذا التعامل الحذر مع هذه المرجعيات فقد انتهى إلى الصدام مع الأزهر الذي لم يوافق على عرض الفيلم بعد اكتماله. وشرع في إجراءات مقاضاته بعد ثلاثين سنة من إنتاجه دفاعا عن حق عمله في العرض3 ولكنّ موته في حادث تفجير نزل بالأردن سنة 2005 كان أنفذ. وكان لهذا التعامل الحذر أثره العميق على الفيلم فأخّل بوظيفته المرجعيّة. ذلك أن العقاد، فيما يعقد من المواثيق السردية مع المتفرّجين، يقدّم أثره باعتباره فيلما تاريخيّا يكتسب مشروعيّته من مدى دقّة توثيقه للحقيقة. فحرصه على تأمين نسخة وفاقيّة تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات المذهبيّة السنيّة الشيعيّة غيّب عددا من الصحابة ممن كانوا فاعلين في نشر الدعوة والذود عن الدين كالخلفاء الراشدين وتغاضى كليّا عن شخصيّة عائشة واكتفى بحضور فاتر لأخبار عن علي وأبي بكر خلّف فراغا في الفيلم لا نعتقد أنّه يعود إلى الإفتاء بعدم جواز إظهارهم. فمن شأن العمل المبتكِر أن يجد من الحيل الفنيّة ما يعوّض عن حضورهم المباشر.
1- أفق تقبّل مزدوج وسياقان ثقافيان متقابلان.
لئن أربك التعامل مع الاختلاف المذهبي العقاد فإنه تعامل مع السياق الثقافي العالمي بكفاءة ضمّنت الفيلم في الآن نفسه رسائل مختلفة بحسب المتقبّل وبحسب سياقه الحضاري ولعلّ إيمان المموّلين العرب بالمشروع وتوفيرهم الاعتمادات الكافيّة لتصوير نسختين 4 عربيّة وعالمية ساهم بقدر كبير في تحقيق هذا النّجاح.
2- التاريخي وأفق التقبّل العربي:
أ – التخييل ترهينا.
لا يقبل المتفرّج على الفيلم صفحة بيضاء خلوا من كل تأثير سابق والمؤشر البصريّ لا يُبلّغ شيئا ما إلى متقبّله إلا بالنّظر إلى نظام من مواضعاته و وتمثّلاته للوجود فنحن إذ نتعرّف إلى الفجر، يقول أمبرتو إيكو، فإنما ننتظر بزوغ الشمس بعد فترة قليلة استنادا إلى تجاربنا السابقة في الوجود5 ولا نتأمل الفيلم على الشاشة ونفعّل دلالاته إلا ونحن ندفع بالهّم الاجتماعي الخامل عادة، إلى السطح عبر ضرب من الإسقاط والتوسعة والمبالغة وتوسّل العرض لفهم الوقائع الاجتماعيّة بحيث يختبر المتفرّجون، عبر انفتاح الشاشة على عوالم المتخيّل، حيواتهم باعتبارهم أفرادا من المجموعة. “وعبر استدعاء القصص يمكّن السينمائيون المجتمع من إعادة ضبط ممارساته اليوميّة مع المثاليّ”6 وعبر استدعاء قصة انتشار الإسلام يمكن العقاد العرب7 من فرصة إعادة تقييم أوضاعهم بإسقاط صورة راهنهم، من اضطهاد وضعف وإلصاق مختلف التهم بهم لتكريس الهيمنة الاقتصادية الغربيّة، على صورة الماضي8. يقول الصوت السارد من خارج الإطار: “كانت في قريش سيادة مكة. منهم بنو عبد الداري الأثرياء وكبار التجار يحتكرون سيادة الأوثان لتروج في أعيادها تجارتهم. ومنهم بنو هاشم جد محمد يؤثرون ضيافة الحجيج ما أقاموا في مكة”. ويسأل أبو سفيان بن حرب عمار بن ياسر “لم لا يعي محمد أنّ حياتنا رهن بآلهة الكعبة. نحن أصحاب الكعبة. كل عام تحج إلينا القوافل، تطوف بالكعبة ونبيعها تجارتنا. ليس الأمر سهلا يا فتى”. ولعلّ ذروة الترهين تكمن في صورة اليهودي المرابي الذي يبتز أعرابيا يستغيث “أنا أسدد منذ خمسة أعوام” ويجيب معلنا بتباه وزهو “ألا تفهم الربا يتضاعف يتضاعف”. ولما كان استدعاء القصص يمكّن من إعادة ضبط الممارسات اليوميّة حتى تتوافق مع المثاليّ يقدّم الفيلم السيرة باعتبارها نموذجا للثّبات على المبدإ وتجاوز الوهن من خلال التكافل ودعم روح الجماعة باعتبارهما الكافلين للتّحول من الضعف إلى القوّة والفعل في التاريخ ويذّكر العرب والمسلمين بمسؤولياتهم باعتبارهم حملة رسالة إلى العالم .
ب- التخييل حوارا حضاريّا
![]() |
حمزة يأمر بفك قيد الأسرى: تذكير للعالم بأن العرب بناة حضارة
كثيرا ما بدا فيلم “الرسالة” خطابا مرسلا إلى المتقبل الغربي9 لا يعرّفه بنشأة الرسالة المحمديّة فحسب وإنما يذكّره بأن العرب والمسلمين، المتهمين بالإساءة إلى المرأة، بناة حضارة ارتقوا بالإنسان من طور عبادة الأوثان إلى التّوحيد ومن التناحر القبلي إلى الفعل في الكون كما ارتقوا بسلم القيم من التمييز والعبوديّة ووأد النساء إلى نشر قيم التّسامح وحسن معاملة الأسرى أوان الحرب10 والمساواة بين الجنسين. فجاءت المرأة فاعلة مساهمة في نشر الدعوة شأن سميّة أم ياسر تشد أزر ابنها وتدفع زوجها ياسرا إلى الإسلام وتتحمل تعذيب قريش لها برباطة جأش.
ويرتقي هذا الخطاب الموجه نحو الآخر في قصر النجاشي إلى مستوى الحوار بين الأديان فيذكّر جعفر بن عبد المطلب بما كان عليه العرب من ضلال وما أضحوا عليه من توحيد وكف عن المحارم واحترام للأديان بما يمثل نقطة تقاطع مع الديانة المسيحيّة تقرب بينهما ويعرض من القرآن قصة مريم العذراء ومعجزة ولادتها للمسيح. وحتى يكون أشد وقعا يتخذ هذا الحوار بعدا دراميّا قوامه الصراع بين قوّة تجذب إلى الإقناع بما جاء به الإسلام من القيم يمثلها جعفر بن عبد المطلب وأخرى تحرض النجاشي على المسلمين ويمثلها عمرو بن العاص لترجح كفة الأولى ويتجه النجاشي صوب جعفر فإذا الصليب يقترب من العمامة في إشارة بصريّة تحث على التقارب بين المسيحيّة والإسلام وبين الأديان عموما.
![]() |
النجاشي يتجه صوب جعفر بن عبد المطلب.. الصليب والعمامة يحثان على التقارب بين الأديان
نتبيّن إذن، من منطلق هذه المقاربة السيميائيّة التداوليّة لفيلم الرسالة، أنّ المعنى يُستقى من النصّ والسياق معا ومما بينهما من تفاعل يضم الفني إلى الحضاريّ والإيديولوجي في رؤية للمخرج تعي، على ما فيها من التمثّلات الملزمة له دون غيره، أهميّة الوسائط البصريّة في تقديم الذات إلى الآخر ومحاورته من منطلق الإيمان بضرورة التعايش في عالم متنوّع ثقافيّا.
الهوامش
1- فقد كان المنتجون في أمريكا يراهنون على ترشيح الممثل أنطونيو كوين لأداء دور الرسول مقدّرين أن حدثا سينمائيا كهذا سيفتح أمامهم سوقا تقدّر وقتها ب700 ملين مسلم وكان مرشحهم للإخراج وقتها محمد الأخضر حامينا ولكن هذا الأخير رفض المقاربة الأمريكيّة للفيلم أما مصطفي العقاد فقد رفض تجسيد شخصيّة الرسول وبحث عن ممولين عرب Salim Aggar, Le prophète au cinéma L’image interdite Asaru Cinéma n° : 2, Algérie juillet 2007.
2- يشير الجينيريك إلى أن تصوير الفيلم تم “بعد موافقة الهيئة المسؤولة بالأزهر الشريف والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بلبنان”.
3- يقول في حوار لجريدة الرياض السعوديّة: “أنا في غاية الدهشة من موقف الأزهر تجاه الفيلم. لقد أمضيت عاماً كاملاً في مصر أحضر للسيناريو عام 1970م بإشراف الأزهر. الدكتور عبدالرحمن البيصار والدكتور عبدالمنعم النمر مع توفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وعبدالحميد جودة السحار.. طوال عام كامل نجلس مع سيناريست من هوليوود يكتب ما يوافقون عليه وبعد الانتهاء من الكتابة وافق عليه المجلس الشيعي الأعلى في لبنان. وأنا في النهاية رفعت دعوى قضائية. أريد فقط أن أعرف أسباب منع الفيلم من الأزهر”. جريدة الرياض، الجمعة 20 ربيع الأول 1426هـ – 29 ابريل 2005م – العدد 13458
4- تولى بطولة في النسخة العربيّة كل من عبدالله غيث فادى دور حمزة بن عبد المطلب ومنى واصف فأدت هند بنت عتبة أما النسخة االعالمية فكانت من بطولة أنطوني كوين وأيرين باباس.
5- Umberto Eco, La structure absente: Introduction à la recherche sémiotique; Mercure de France, Paris1972, P 173.
6- Andréanne Pâquet, Un regard anthropologique sur le rituel de la salle obscure in Cahiers du gerse No 5, L’expérience d’aller au cinéma : Espace, cinéma et médiation éd UQUM Montréal automne 2003, P 54.
7- بدا وعي العقاد بضرورة أخذ أفق انتظار المتقبل بعين الاعتبار واضحا أثناء تشكيل الخطاب السينمائي فيجيب سائله عن إمكانية إخراج فيلم عن آخر أيام العرب في الأندلس بقوله ” أنت تعني سقوط الأندلس؟ سقوط الأندلس لا نوجهه إلى العالم بل نوجهه إلى أمتنا حتى نتعلم منه درساً!! موقع “جسد الثقافة” http://www.jsad.net
8- يعتبر العقاد أنّ إسقاط قضايا الراهن على الزمن الماضي في الفيلم التاريخي ضرورة فنيّة ودلاليّة قول في حوار له حول المغزى من عزمه إخراج فيلم حول صلاح الدين الأيوني ” أي فيلم تاريخي يستلزم إسقاط معاصر تستفيد منه،الآن بالسيناريو والحوار يوجد مقارنه بين وضع الدول حول إسرائيل تشابه وضع الدول حول فلسطين أيام الاحتلال الصليبي ،دويلات منها من يتعاون مع العدو مجزئه لا توجد وحده ،لما أتى صلاح الدين ونظف الأنظمة ووحد ثم غزا ،هذا الدرس الذي نحن نسقطه على أوضاعنا الآن” حاوره محمد بن طرجم الدغيلبي ضمن موقع “جسد الثقافة” http://www.jsad.net
9- برهن العقاد على أنه يأخذ ردود أفعال المتقبل الغربيّ بعين الاعتبار فيحرص على ألاّ ينجر يخضع إلى انتظاراته وأن يعمل بالمقابل على التحكم في استجاباته وتوجيه تأويله للعمل الفنيّ، لذلك يعتب على يوسف شاهين فيقول ” فيلم «صلاح الدين» رغم جودته يبقى فيلماً محلياً، وأنا عند مشاهدتي للفيلم تعاطفت مع ريتشارد قلب الأسد أكثر من تعاطفي مع صلاح الدين الأيوبي، أما فيلم «المصير» فلم أجد فيه الأندلس بل وجدت أن المسلمين يحرقون الكتب وهذه واقعة ليست مؤكد حدوثها مع ابن رشد. وللأسف هذا المشهد صفقوا له في مهرجان «كان» لمدة خمس دقائق. صحيح إنه يقصد المتطرفين، لكن هذا أمر نفهمه نحن أما الغرب فسيعتقد بأنهم المسلمون عموماً، وهذا هو الخطر. جريدة الرياض، الجمعة 20 ربيع الأول 1426هـ – 29 ابريل 2005م – العدد 13458.
10- كان العقاد يقدّر أن إخراج فيلم عن صلاح الدين من شأنه أن يتصدى لحملات الصهيونيّة التي تريد ربط الدين الإسلامي بالإرهاب لمجرد تورّط بعض المسلمين في تفجيرات هنا أو هناك “لأن صلاح الدين يرمز إلى الحروب الصليبية التي كانت عملا إرهابيا باسم الدين، ولكن ليس بإمكاننا أن نصف المسيحية بالدين الإرهابي لآن بعض الأشخاص استغلوه،كما هو الحال في الإسلام” موقع “جسد الثقافة” http://www.jsad.net