“ظل غياب” نصري حجاج
اقتفاء أثر الغياب الفلسطيني
بشار إبراهيم
ربما كان إصدار مجموعته القصصية «أعتقد أنني أحب الحكومة»، تلك الخطوة الحاسمة، والمفصلية، في انتقاله من صورة «موظف ما» في مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، في تونس حينها، إلى «اسم علم»، على قدر من الشهرة، يجري تداوله، حيث تيسَّر مهتمون، ومتابعون، ونقاد، وجمهور.. فأخذت مجموعته القصصية تلك تفيض بأخبارها، والكتابات التي تناولتها، عن حدود المكان، وتطوف حاملة اسم «نصري حجاج»، ليدخل في قواميس الكثيرين، وفي ذاكراتهم، ربما ريثما يلتقونه، ليعاودوا اكتشاف هذا الرجل، مرة أخرى، وفي صور متعددة!..
و«أعتقد أنني أحب الحكومة»؛ هذه المجموعة القصصية، القصيرة، والصغيرة، الصادرة عن «المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي»، في رام الله، عام 2004، كانت بداية غير مبكرة، لفتى فلسطيني، «شابت الذوائب منه»؛ فقد كان حينها، وإذ جاوز الخمسين من عمره، قد عرف المنافي، وخبرها.. وطحنته الأيام، فعجنها، وخبزها، وإن اكتوى بنيرانها، فنضج وا احترق.. وربما ذاك بعض مما مكّنه من القدرة على استلال هذا العنوان الملتبس، إذ يتداخل فيه الجد والهزل، والوقار بالتهكم، والرصانة بالسخرية.. فيغدو الاسم المجرد لهذه المجموعة، وحده على الأقل، وبداية أولى، دافعاً كلّ من صادفه لقراءة كتاب، لن يزيد عن واحد وثمانين صفحة، من القطع المتوسط، ولن ينساه بعد ذلك!..
![]() |
المخرج نصري حجاج |
يهدي نصري حجاج مجموعته القصصية هذه، بشكل فريد، واستثنائي، إذ نراه يقول: «أهدي هذا الكتاب إلى نصري حجاج، علّه يتوقف عن ملاحقتي». وإن كان من المتعذر معرفة أيّ نصري ذاك الذي يلاحق نصري الآخر!.. أالكاتب، أم المبدع، أم الإنسان.. أهو المحطون، أم الطامح للنفور من عالم اليومي، المستهلك، المعتاد، المتكرر.. إلى الفريد، الاستثنائي، المدهش، والمفاجئ؟!.. فإن المجموعة ذاتها، إنما كشفت عن كاتب فلسطيني من طراز خاص. لا يشبه أحداً. ولا يقتفى أثراً أحداً مما سبقه، على الرغم مما قد بناه السابقون من مبدعي القصة الفلسطينية، منذ عقود مضت.
حافلة المجموعة القصصية بكل ما يؤشر إلى خصوبة المخيلة، ويؤكد سعتها، ويفصح عن غرابتها، وتشابكاتها، بين الكتابة بالكلمة، والرسم بالصور، وتنضيد اللامعقول إلى حدود السوريالية، والعجائبية، والغرائبية.. لنتساءل في النهاية، من أين له هذا، خاصة ونحن نعرف أنه فتى فلسطيني لاجئ، ابن مخيم عين الحلوة.. كان، وما يزال؟!..
ربما كان من فضائل المجموعة القصصية تلك، أنها كشفت عن المخيلة السينمائية الأصيلة لدى كاتبها؛ «نصري حجاج»، فكان لابد للعودة إلى سيرته الأولى، لنكتشف أن قد سبق له، منذ سنوات سالفة، أن عمل في السينما، بشكل أو بآخر. ولعل الفيلم الوثائقي، غير المشاهد تماماً، والذي يحمل اسم «السنديان دائم الخضرة»، بإخراج مشترك مع مجدي العمري، وبإنتاج دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، عام 1991، سوف يعيدنا، مرة واحدة، إلى تلك العلاقة الخفية، التي كانت تربط نصري حجاج بالسينما، وشغف تحقيق الأفلام الوثائقية. تارة أولى، ربما، بمشاركته في إخراج فيلم «السنديان دائم الخضرة»، وأخرى، أيضاً، بكتابة سيناريو فيلم التحريك «علامة سؤال»، الذي سيتولى رسومه وإخراجه جمال شموط، عام 1990.
![]() |
حمامتان بالقرب من … … قبر ناجي العلي |
يمكن لنا، التوقف مطولاً أمام تلك المجموعة القصصية، ولكنها ليست موضوعنا هنا، إذ علينا أن نذهب مباشرة إلى فيلم «ظل الغياب»، الذي قدم نصري حجاج مخرجاً، بشكل حاسم، ونهائي. وربما كان ذاك الفيلم الوثائقي، البداية الحقيقية للمشروع البصري الذي سوف يتحول إلى حياة نصري حجاج، بتفاصيلها جميعاً. فمنذ أن أطل على العالم بهذا الفيلم الوثائقي الطويل (مدته 84 دقيقة)، وانخراطه في جولات لم تنته على العديد من المهرجانات العربية والأجنبية، والعروض الرسمية، الثقافية، والشعبية، فضلاً عن العروض الفضائية، ناهيك عما ناله الفيلم من تكريمات وجوائز.. مع هذا كله، لم يعد ممكناً التعامل مع نصري حجاج إلا باعتباره صانع أفلام وثائقية، نرى ما بين يدينا من أفلامه، ونتطلع لمشروعه القادم، ونتشوق لجديده!..
منذ البداية، يبدو فيلم «ظل الغياب»، وثائقياً من طراز ملحمي ما. ملحمي؛ ربما على مستوى التصوير، الذي يكاد يجوب العالم من أقصاه إلى أقصاه، فتكاد تمتد أماكن التصوير من فيتنام شرقاً، إلى أمريكا غرباً، مروراً بقارات العالم القديم والجديد معاً!.. وملحمي؛ ربما على مستوى الحكاية، إذ أنه ينوي التطرق إلى جوانب من حياة شعب، وتاريخه، ومصائر الكثيرين من أبنائه، من أعلام وعامة، دون أن يفلت الوقوف أمام نبرات من السيرة الذاتية، الشخصية، للمخرج نفسه!..
من مخيم عين الحلوة؛ مخيم لجوء المخرج منذ نيف وستين عاماً، ينطلق الفيلم، في لحظة ما، فيجوب العالم قاطعاً آلاف الكيلومترات، عابراً عشرات الحدود السياسية، الطبيعية، مخترقاً مجاهل دروب وعرة، ومقتحماً أمكنة نائية، وملتقطاً أسماء مجهولة.. بل إنه، وفي بادرة نادرة، وإن كانت ليست الأولى، على ما نعلم، يتمكن الفيلم من التجول في الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواء تلك التي أُحتلت عام 1948، أو عام 1967، من القدس إلى حيفا، ويافا.. ومن الجليل إلى المثلث، والضفة والقطاع.. صحيح أن المخرجة مي المصري، تمكنت قبل ذلك سنوات من العودة، بعد غياب قسري، إلى مدينتها نابلس، لتحقق فيلمها الشهير «أطفال جبل النار»، عام 1991. إلا أن تميز نصري حجاج بفيلمه هذا، يكمن في أنه لا يعود بعد 14 عاماً، كما فعلت المخرجة الرائقة مي المصري، بل يتمثل في أنه يعود، إلى قريته «الناعمة»، في إصبع الجليل، تلك العودة/ الزيارة التي كانت شوطاً من العمر مستحيلة!..
| ||
|
إنه بعد قرابة ستين عاماً من النكبة، يحضر إلى ذاك المكان الذي مات والده على حلم العودة إليه، ولو حفنة من عظام، والذي ستموت والدته على الحلم ذاته.. ولن ينسى المخرج أن يمارس لعبة مونتاجية، ذكية ودالة، بتداخل مشاهد المضي على الدروب الضيقة، والزواريب المتهالكة، في المخيم، من جهة، والدروب الواسعة إلى ماتبقى من قريته المدمرة، التي محاها المحتل الصهيوني، والتي يبرع المخرج بوصفها أنها «مدفونة تحت نفسها»، في تعبير بليغ، ودلالة ذكية، تفيد أن «الناعمة» القرية العربية، تبقى هي «الناعمة»، حتى لو دمرها الصهاينة، ومحاها عن وجه الأرض الفلسطينية، من جهة أخرى!..
يبدو أن عودة نصري حجاج إلى قريته «الناعمة»، في أصبع الجليل، وبالقرب من بحيرة الحولة، وسهلها، إنما هي عودة للغياب. ليس ثمة من حضور هنا، طالما أن الفلسطيني، ابن هذه الأرض، وصاحبها، مُغيَّب عنها، مطرود خلف حدود، وأسوار، طيّ مخيمات اللجوء والتشرد والحرمان.
سيعتمد المخرج طريقة التعليق الصوتي، طيلة فيلمه، مستخدماً صوته. ربما لتعميق إحساسنا بأن هذا الفيلم هو فيلمه الذاتي، قوله الشخصي، وحكايته، ورؤيته.. على الرغم من أنه سيلفّ العالم، جيئة وذهاباً، وسيقص العشرات من الحكايا المؤسية، لفلسطينيين طواهم الغياب، في أصقاع الدنيا.. مع ملاحظة أنه لا يعتمد أي منهج واضح في ذلك.. فليس ثمة اقتداء بالتتابع الزمني (الكرونولوجي)، ولا التزام بالتدرج المكاني، اقتراباً أو ابتعاداً.. ليبدو الفيلم أشبه بتداعيات تتوارد على خاطر المخرج، فيقصها علينا، آن تحضر!..
يطفو الإنساني على سطح الفيلم، إذ يميل في كثير من مفاصله لتناول قصص إنسانية مؤسية، نعرف حكاية المفقود، ونرى الفاقد.. نعرف المُغيَّب، ونشاهد الشاهد على الغياب، وكلهم في غياب!.. ولكن الإنساني في الفيلم، لن ينال من السياسي والوطني فيه، أو يخدشه. ليس الفلسطينيون ضحايا فيضان، أو إعصار، أو زلزال.. إنهم ضحايا مشروع سياسي استعماري استيطاني إجلائي إحلالي عنصري بغيض، عنوانه الحركة الصهيونية، وأداته إسرائيل، وآلياته تلك القوانين والقرارات العجيبة التي تمنع الفلسطيني من العودة إلى أرضه، حتى ولو جثة هامدة.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه الفيلم عن الموت، والقتل، والاغتيال، والاستشهاد.. عن المقابر الجماعية، والقبور المطرودة من أمكنتها.. عن الغياب المتناثر في أصقاع العالم.. إلا أن لا شيء فيه من الميلودراما. ولا أي نبرة من توسل العواطف، أو استجرار المشاعر، واستدرار الدموع.
لا يحب الفلسطينيون الموت.. وما كان لهم ذاك.. إنهم، كما سائر شعوب المعمورة، يحبون الحياة «ما استطاعوا إليها سبيلاً».. وهم يدركون عميقاً أن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».. وسيبدو نصري حجاج مغرماً بالشاعر الفلسطيني محمود درويش، إلى حد الوله!… ليس ذلك لأنه جعل فاتحة فيلمه هذا، لوحة مكتوبة تظهر جملة: «ليدين من حجر وزعتر»؛ تلك العبارة الأثيرة المأخوذة من قصيدة شهيرة للشاعر، ولا لأن فيلمه التالي سيكون عن الشاعر نفسه، بعيد رحيله.. والذي نرجو أن نتوقف عنده.. بل ربما لأنه كان شاعر حياة الفلسطينيين، لا موتهم.. شاعر بحثهم عن الحضور، لا عن الغياب!..
ستحتاج القصص والحكايا التي يمرّ عليها فيلم «ظل الغياب» لكتاب موسوعة.. بل قل لكتاب ملحمي، على شاكلة الفيلم نفسه.. ولن يكون مرادنا التطرق إليها، واحدة إثر أخرى، أو تلخيصها، أو اختزالها، ولا ممارسة أي انتقائية تجاه أي منها.. فهي جميعها قصص منسوجة بأنفاس بشر، حيواتهم التي كانت، ومضت، وانطفأت.. أحلامهم وآمالهم وآلامهم.. وهي جميعها لوعاتهم الباقية، ما بقي غيابهم، وطالما استمر.
ما أقسى أن يكون الموت هو الموضوع، وأن تكون شواهد القبور هي الدليل، والهادي! وما أبأس الجلاد، وهو يرى تناثر أشلاء ضحيته تملأ الآفاق، وتطول المدى.. وترى أي عزاء للضحية، وهي تنزوي غريبة في موتها، كما في حياتها.. دون أن تأمل بعودةٍ لوطن وأهل، حتى لو كانت «العظام مكاحل»!..
تندفن الناعمة تحت نفسها، كما يقول المخرج.. ويندفن الفلسطيني في نفسه الفلسطينية، كما سنرى.. وما ذاك التناثر العجيب، لآلاف القبور الفلسطينية، في قارات العالم أجمع، إلا النذير، والبشير.. والشاهد الأبدي على هذا الغياب، الذي لا بد له أن ينتهي يوماً..
![]() |
لا يحتفي الفيلم بالغياب.. بل يرصده.. ربما لأن مخرجه، وهو كاتب السيناريو، ومن قام بالبحث والإعداد، أيضاً، يدرك أن الغياب هو الوجه الآخر للحضور.. فما بين غياب وحضور تبقى الذاكرة هي الأساس.. الذاكرة التي ستصبح يوماً هي السلاح الأمضى، في وجه المشروع الصهيوني.. ولعل من هنا، وباعتبارها نقطة بداية، لا خاتمة.. كان للفيلم أن انتهى بتلك الجملة، التي نطقها المخرج نصري حجاج، ذات حوار، في القدس، تماماً.. عندما قال موقناً ومؤكداً: «بيخافوا من ذاكرتنا»!.. الذكراة التي ستجلو «ظل الغياب».