( الجامع ): الكومبارس بطلا في مواجهة نفسه أولا

فجر يعقوب

في حالة المخرج المغربي داوود أولاد السيد لايمكن قراءة فيلمه الجديد ( الجامع ) دون الرجوع المتأمل  في  حكاية فيلمه السابق ( بانتظار بازوليني ) . في هذا الفيلم يقوم التهامي ببيع الأحلام إلى سكان وورزازات وزاغورا ، حينا ببيع وتصليح الأطباق اللاقطة لهم ، وحينا بتعويدهم على انتظار مجيء المخرج الايطالي بيير باولو – بازوليني لتصوير فيلم جديد ، وهو  الذي سبق له وعمل معه ككومبارس في فيلمه ( أوديب ملكا ) حين صوره في ستينيات القرن الماضي حيث يقيم هؤلاء الناس حاليا . يقوم التهامي بصناعة الوهم الحلو لهؤلاء الفقراء ،  في مواجهة هذه الحياة القاسية التي يعيشونها في مواجهة البطالة الإجبارية ، وهم يضبطون إيقاع الحياة الكلي على هدي القادمين من الخارج ، ومنهم بازوليني الذي لا يستعاد ، لتصوير أفلامهم في أماكن درامية بامتياز . يدرك أولاد السيد في مواجهة هذا ( النفخ ) الدرامي السلس ، أنه عليه أن يجمع مابين التهامي بائع الأوهام الحلوة ،للاستمرار بالعيش رغم فظاظة الحياة نفسها ، وبين صاحب ( أوديب ملكا ) في صورة من عهد بائد ، عهد تتخلخل ، فيه الحكايات أيضا ، فكما البشر العاديون  ، كذلك القائمون على تصنيع هذه اللحظات المشوقة والمثيرة يغيبون في وهم اللعبة . هنا يتداخل التخييل والقدرة على ” تحوير ” الواقع ، بما يتناسب مع الرؤى السينمائية ، اذ لايعود الفكاك منها منفذا ومخرجا للجميع  ، وهم يعيشون قسوة اللحظة بواقعيتها  وقدرتها على الاقتران بالخيال من أجل تمرير لعبة العيش نفسها . لا يعود التهامي مالكا لأدواته ، بل هو يتحلل منها مرغما في مواجهة ” بورتريه ” بازوليني المقتول في مكان آخر ، فيما يعمل على مناجاته لعدم مجيئه وكأنه يغيب في وهم اللعبة مثل الآخرين مع معرفته المسبقة بميتته المأساوية منذ زمن ، ولا يكتفي بذلك ” التذلل ” الدرامي إن جاز التعبير ، بل يذهب إلى جمع أهل وورزازت ، ليحاضر فيهم عن الممثل ، وأهميته في الفيلم . هذا الخلط بين ماهو متخيل وواقعي يكاد ينسحب بقوة أكبر على فيلم ( الجامع ) ، ليعطي رسالة أكبر عن هذا الخلط ، وجدت من قبل في فيلم ( بانتظار بازوليني ) ، فإذا كانت السينما في هذا الفيلم لا تجيء في موعدها المحدد ، فإنها في ( الجامع ) تتشكل من السينما نفسها بغية الكشف عما هو مخبوء ومستور ، وبحاجة لكشف سينمائي خاص ، وبمشاركة من أولاد السيد نفسه ، الذي يقرر هنا البحث عن ( موحا ) الموظف أصلا في وزارة الثقافة المغربية ، وقد لعب أدوارا صغيرة في أفلام كثيرة ، لم تتعد حجز الكومبارس لبضع دقائق في أي فيلم قد يصور هنا أو هناك .

المخرج داوود اولاد السيد

 موحا يمثل  الحالة الخاصة لبطل قادم من فخ الانتظار لسينما لا تجيء في موعدها ، بل تتمدد في الظل ، لتغير من وجهة أناس آخرين ، عاشوا معا ، وعملوا معا ، وافترقوا ، كما يفترق كل الناس ، ولا يجتمعون ثانية إلا من خلال صناعة الأحلام ، في استوديوهات وورزازات وزاغورا ، حيث يطيب للمخرج أولاد السيد صناعة فيلم من داخل الفيلم نفسه . هذه لعبة سينمائية صرفة ، ليست من ” اختراع ” داوود أولاد السيد ، ولكن هاهنا تأخذ منحى مختلفا بحاجة لإعادة قراءة من عدة زوايا في آن ، ف( موحا ) الذي يحظى بدور بطولة مطلقة ، لن يودع دور الكومبارس نهائيا ، وهو يعرف ذلك ، لأن الدور المنوط به يجيء من الواقع ، فإن غادره في السينما ، فلن يغادره في الواقع الذي يفد منه ،  وهنا يكمن سحر الدور الذي يلعبه ، فنحن سنقف معه في مواجهة لعبة الديكور السينمائية . الديكور النفسي الذي يتخذ منه داوود ذريعة لصناعة فيلمه الأول ، سيصبح هنا عقبة كبرى لا تذلل في حياة الكومبارس السابق ، لا بل سيصبح هو أساس اللعبة الجديدة . بهذا المعنى هل سيصبح ( الجامع ) لعبة ديكورات سينمائية لعبها سينمائيون آخرون من قبل ،  ربما بسبب أوضاع انتاجية، وليست ابداعية في المقام الأول ، ولكنها أتت بنتائج فنية ملهمة ، كما في حالة فيلم ( الجامع ) الذي يتعدى حسم هذه العلاقة المتأرجحة بين ماهو تكثيف  بصري في حالتي الخيال والواقع ، إلى تأكيد صيرورة الصورة نفسها ، وكأنها أصبحت من مصدر واحد ، لاتعود تتاكد فيه إلا السينما نفسها ، وهي تتخذ منحى بالغ الأهمية ، يكون سببه هذا المرة الكشف عن امكانية استغلال الدين ، والنفاق الاجتماعي الناشئ عن سوء استغلاله ، وتصريف شؤونه بين الناس عن طريق التزوير والخداع .
يجد ( موحا ) نفسه في مواجهة هذا الاستغلال الفظ للدين من قبل صديقه الكومبارس بالدرجة الأولى ، ولايجد فيه معينا له ، فعندما يهدم القائمون على فيلم ( بانتظار بازوليني ) الديكورات التي شيدت من أجل اتمامه في مراحل مختلفة ، يقفون أمام الجامع الذي شيده المخرج على أراضي ( موحا ) ، باعتباره ديكورا مقدسا ،  لايجوز تفكيكه ، وليس تهديمه فقط . هنا التفكيك يأخذ معنى مختلفا ، وبالتالي ، فإن تهديمه لايجوز باعتباره أضحى ركنا مقدسا في حياة الناس الذين انتهوا للتو من تصوير فيلم لايؤسس للحياة الواقعية حين ينصرفون إليها ليعيشونها بانتظار صناعة أفلام اخرى تمدهم بطاقات العيش ، والأحلام البسيطة التي لايمكن الاستغناء عنها ، لأنه لايمكن العيش من دونها ، ويصبح المساس به مساسا بالدين نفسه ، وهو مايخفق ( موحا ) باظهاره لكل من قابله في محاولة  لحل مشكلته ، فحياته تقوم على الارض التي كان يمتلكها قبل أن يؤجرها لتشييد ديكورات الفيلم السابق ، وبما أن حياته في العيش الكريم من أرضه أصبحت مهددة بسبب بقاء هذا الديكور المقدس، فإنه يلتقي بالإمام الفقيه الذي يرفض الاستماع إليه ، لأن المكان أصبح بعرف الآخرين مقدسا ، وحتى لو كان ذلك على حساب لقمته ولقمة أطفاله . بالطبع يجيء  دور صديقه الكومبارس ، ليقسي من الحالة التي يعيشها موحا ، فهذا الصديق المتلون الذي ينصب من نفسه إماما للجامع المشيد على أرضه ، لايني يرتدي ملابس الكومبارس من الفيلم السابق حين يمر من أمام الجامع مجموعة من السياح ، وكأنه مستعد لعرض خدماته على كل من يرغب فيها .

لاتفيد موحا كل تلك التوسلات التي يطلقها باتجاه مسؤولين محليين يقفون في مواجهته وحده ، بغية الاستفادة من البناء المشيد على أرضه ورزقه ، ولايعود أمامه سوى الاستنجاد ، واطلاق صرخات يائسة في مواجهة هذا التزوير الغاشم  الذي يمارسه هواة النفاق الاجتماعي عبر استكناه فظ للدين يقوم على تفسير شخصي لما هو مقدس وماهو غير مقدس ، وكأن السينما تقف لأول مرة على الحد الفاصل بين ماهو متخيل وماهو واقعي باستخدام شاشة التلفزيون عندما ينادي موحا عبرها في احتفال محلي على الضمائر الحية لاسترداد أرضه الضائعة ، كرمى لعين السينما التي لاتجيء في موعدها المحدد ، فيضيع كل من ينتظرها ، أو يضيع أثره وهو يجد في اقتفائها وصناعتها ومباركة أحلامها . يجد موحا نفسه وحيدا في مواجهة مصيره المجهول حين يقتاد معتقلا وهو يترنم بأغنية شعبية تبدو وكأنها خاصة به . لايتبدل دوره بين ماهو بطل مطلق  وماهو دور ثانوي ، فالديكورات ليست مكانا فحسب ، بل هي ديكورات نفسية أيضا تضع الكومبارس كبطل في مواجهة نفسه حين يختبرها في صناعة فيلم من داخل الفيلم نفسه .

( الجامع ) من انتاج المركز السينمائي المغربي عرض في الدورة الثامنة عشرة من مهرجان دمشق السينمائي ( 7 – 13 نوفمبر 2010 ). حظي بجوائز في قرطاج وسان سابستيان مؤخرا .
عام الإنتاج: 2010
مدة العرض: 85 دقيقة
إخراج وسيناريو: داوود أولاد السيد
تصوير: تيري ليبيغر
موسيقى: فرقة أكوالال
إنتاج: (أفلام الجنوب) – شينغتي فيلمز
الدولة: المغرب – فرنسا

الممثلون:
عبد اللطيف توراش
بشرى هريش
مصطفى طحطح
نصور أوجري
سالم دابيلا


إعلان