السينما المنسيّة، والأحلام المُعلقة
صلاح سرميني ـ حلب
تكتسبُ مدينة حلب مذاقاً خاصاً بعد سنواتٍ طويلة من غربةٍ مُستديمة فرضتها المُغامرة الحياتية، والثقافية.
بعد ذاكَ الغياب الطويل، لابدّ من زياراتٍ، ولقاءاتٍ مع أفراد العائلة من الجيل الأكبر سناً، والتعرّف على من كانوا فيما مضى أطفالاً صغاراً، وأصبحوا اليوم شباباً، وصبايا يجرجرون وراءهم أولادهم، بناتهم، وأحفادهم.
ولأول مرةٍ في حياتي، تسوقني قدمايّ لأداء واجبٍ يفرض نفسه، زيارة الذين رحلوا، واستقروا إلى الأبد في المقبرة المُحاذية للحيّ الشعبي الذي كنتُ أعيش فيه يوماً .
وما بين دهشة لقاء الجيل الذي كبر، والكمّ الهائل من الأطفال الجدد، والحزن المكتوم بافتقاد الراحلين، أدركتُ فجأةً معنى الزمن، وعدد السنوات الكثيرة التي مضت.
في الأيام التالية، وبعد التسكع في الحارات، والأزقة الشعبية، أسترجعُ الماضي/الحاضر، وأستعذبُ نداءات الباعة المُختلطة بالأغاني الصادرة من أجهزة الراديو، والتلفزيون، تملكتني رغبة شديدة بزيارة “الأماكن السحرية” التي تعرفت فيها على ما أثار مخيلتي وقتذاك، وقادني يوماً بعد يوم إلى عشق، وممارسة السينما بجانبيّها العمليّ، والنظريّ.
![]() |
كنت أقرأ بين الحين، والآخر أخباراً عن صالات السينما في حلب، وسورية بشكلٍ عام، حالها، وأحوالها، والأفلام التي تقدمها، ولم يكن ذلك يعني شيئاً بالنسبة لي.
خلال السنوات الدراسية التي قضيتها في مصر، نسيتُ، أو تناسيتُ أماكن أحلامي القديمة، واعتبرتها مرحلةً تعود إلى زمنٍ مضى، طالما استبدلتها بصالاتٍ سينمائية أخرى انتشرت في أرجاء مدينة القاهرة، بالإضافة لعروض المراكز الثقافية الأجنبية، نادي السينما، جمعية الفيلم، جمعية نقاد السينما المصريين، وصالة “المعهد العالي للسينما” التي كانت تحتوي طلابه لمُشاهدة “المدرعة بوتمكين” لإيزنشتين، “المومياء” لشادي عبد السلام، وأفلاماً أخرى.
وعندما استقبلتني باريس طالباً، ومن ثمّ مُقيماً دائماً، جعلتني أحلقُ في عوالم جديدة من المغامرات، والاكتشافات السينمائية، ولم تقتصر على صالاتها الكثيرة العدد، بل تعدتها إلى المدن الفرنسية، والأوروبية بمناسبة متابعتي بعض مهرجاناتها السينمائية.
بالعودة إلى حلب، تفجر الماضي أمامي فجأةً، وأصبح واقعاً مُستعصياً على الفهم، ما معنى رغبة البحث عن صالات السينما في مدينة الطفولة، والتكوين ؟
وقبل أن أجد جواباً على استفساراتي تلك، وصلتُ إلى “باب النصر”، ووقفتُ أمام مبنى كان فيما مضى “سينما السعد” الصالة الأقرب إلى الحيّ الشعبي الذي كنتُ أسكنه، عشر دقائق رُبما بالطرماي (Tramway) التي استبدلت فيما بعد بحافلةٍ عمومية أكثر سرعةً، وأقلّ رومانسيةً، وقتذاك، كانت تلك الصالة الصغيرة، والرخيصة تحتضن الأطفال الذين لا يمتلكون أكثر من ربع، أو نصف ليرة سورية ـ لم أعد أذكر ـ ثمن بطاقة الدخول إليها لمُشاهدة أفلاماً عربية، وأجنبية، وفيها تعرّفت على البطولات الثلاثية في السينما المصرية (الأشقياء الثلاثة، المغامرون الثلاثة، …)، والأفلام الأجنبية التي كانت تسبقها، أو تليها من نوعية زورو، وفانتوماس.
كانت تستقبلنا تلك الصالات عادةً في أيام الجمعة، والأعياد (العيد الصغير/الفطر، والعيد الكبير/الأضحى)، وكانت، بالنسبة لنا، الوسيلة الترفيهية الوحيدة لأطفالٍ مثلنا بالتوازي مع قراءاتٍ “ثرية” لمجلات ميكي، سمير، سوبرمان، الوطواط، تان تان، الشبكة، الموعد،… التي كنا نشتريها من “سوق الجمعة”، أو من المحلات/الأقبية المُتراصة في شارع “بارون” بجانب “نادي الضباط”، والمُخصصة لبيع الكتب، والمجلات القديمة الذي يشبه قليلاً رصيف “الأزبكية” بالقاهرة قبل أن يختفي بدوره.
![]() |
بجانب “المنشية” القديمة التي كانت المحطة المركزية للحافلات العمومية، ما تزال “سينما ليلى” بمدخلها الضيق، والتي تخصصت بعروض أفلام هرقل، ماشيستي، وسبارتاكوس، وفيها استمتعنا بمُشاهدة بائع “الكلاس” الذي كان يرمي قطعها في الهواء عالياً، ويتلقاها مرةً أخرى بين أصابعه، ليُثير انتباهنا، دهشتنا، وشهيتنا، ويحصل على القروش القليلة المُتبقية في جيوبنا.
كان مئات من الصغار يتكوّمون في مقاعد صلبة بانتظار مشاهدة أبطالهم، وعندما تسخن الأجساد، تعرق الوجوه، وتفوح الروائح، يعبّر هؤلاء عن تذمرهم صياحاً، وصفيراً متتالياً، ومتناغماً :
ـ “هوّاية، هوّاية”…
حتى يستجيب تقنيّ العرض لطلباتهم المُلحة، وعندما تنطلق زوابع هوائية من فتحاتٍ كبيرة في أرجاء الصالة، ترتسم البهجة على الوجوه، ويعاود بائع “الكلاس” نداءاته، وهو يتجول في الممرات، وإذا بدأ الفيلم بصورٍ غير واضحة، كانت الصيحات تعلو من جديد :
ـ “بلورة، بلورة يا جوز العورة”…
لمُشاهدة أبطال زمان، وفي حالة الزحام الشديد، ودائماً كان الزحام شديداً، لم يكن لديّ من خيارٍ غير الجلوس مع آخرين فوق منصة المسرح على بعد أمتارٍ من الشاشة، وكان عليّ البقاء مرفوع الرأس محملقاً في الشاشة حتى وقت الاستراحة، ومن ثمّ نهاية الفيلم، مما سببت لي تلك الوضعية بمتاعب، وآلام في الرقبة، أعالجها حالياً عند أحد المُتخصصين.
ولكنني فهمتُ اليوم لماذا أرفض الجلوس في الصفوف الأمامية الأولى، وأتخيّر دائماً كرسياً في منتصف الصف الأخر من القاعة تفادياً لصداعٍ لن ينفعني “ماشيستي” من تخفيفه.
“باب الفرج” ليس بعيداً كثيراً عن “باب النصر”، كنا نقطع المسافة بينهما سيراً على الأقدام، أو نتعلق بالطرماي مغامرين بأجسادنا لتوفير ثمن تذكرة الركوب التي لم تكن أكثر من فرنك سوريّ على ما أتذكر.
هناك، وفي إحدى الزوايا تقع “سينما العباسية” التي أصبحت اليوم صالة أفراح لحفلات الزواج، والليالي الملاح.
وبالقرب من الأماكن القديمة لانطلاق الحافلات الصغيرة المُوصلة إلى القرى، المدن، والدول المًجاورة، وعلى بعد خطواتٍ من برج الساعة الشهيرة التي كانت تتحرك عقاربها بالصدفة، ويقبع تحتها عشرات من ماسحي الأحذية يكسبون رزقهم، مازالت تستقر “سينما القاهرة” في ممرٍ فرعيّ يزدحم بحوانيت بائعي الفول، الحمص، والفلافل، ومحلات التصوير، وورش تصليح السيارات.
من هناك نلتفُ يميناً للوصول إلى “سينما فاروق”، إحدى الصالات الرائدة في تاريخ اختفائها من خريطة الصالات الحلبية (1975)، وتحوّلها إلى حانوتٍ لبيع قطع غيار السيارات.
كانت تعتبر صالةً سيئة السمعة :
ـ “سينما فاروق، اللي بيدخلها صاغ، بيطلع ….”ـ النقاط رقابة ذاتية ـ .
ومع ذلك، لم يمنعنا ذاك التحذير الخطير من ارتيادها بشكلٍ جماعيّ، ومشاهدة فيلم “جازون، والعمالقة” لمراتٍ كثيرة.
![]() |
ويبدو بأنها اكتسبت سمعتها السيئة من موقعها في منطقة “بستان كل آب” التي كانت مُحتشدة بالملاهي الليلية.
بالسير بضع خطوات، وبتجاوز شارع “بارون” الرئيسي، ما تزال “سينما الحمراء” على حالها إلاّ من ملصقات أفلام كثيرة، ومثيرة تنتشر على واجهتها، وفي أرجاء مدخلها، هي التي كانت يوماً واحدةً من الصالات الراقية، تجذب الصغار الميسورين، والمراهقين، والشبان في حفلاتها الصباحية، وفي المساء تستقبل عائلاتٍ من كافة المستويات الاجتماعية لقضاء سهرة ممتعة بمُشاهدة فيلم مصري، أو أجنبي حديث الإنتاج “نسبيا”.
“سينما الكندي” ـ الشرق سابقاً ـ التابعة للمؤسسة العامة للسينما، والمُغلقة حالياً، كانت فيما مضى مثالاً للصالة النموذجية بعرضها مختاراتٍ من الإنتاجات العالمية المهمة، وقد استقبلت لفترةٍ طويلة نشاطات “نادي السينما” بحلب (يوم الاثنين من كلّ أسبوع)، وعلى شاشتها تعرفتُ على بعض أفلام بازوليني، فلليني، داميانو دامياني، غودار، بريسون، ليلوش، وآخرين..
في مقهى “الفندق السياحي” حكى لي الروائي “فيصل خرتش” كيف قادته الصدفة يوماً لمُشاهدة أحد الأفلام فيها، فوجد الفئران تتجول بحريةٍ بين مقاعدها، وعددها أكثر من المتفرجين أنفسهم، وكان عليه التزوّد ببطانيةٍ سميكة كي يتحمل الرطوبة، وتيارات الهواء الباردة التي تجتاحها من أماكن التهوية، والأبواب.
نفس الصالة التي شاهدنا فيها يوماً أفلاماً مثل الإيطاليّ “أسباب الطلاق” لمارتشيلو فونداتو، السوفييتي “الثلوج المُلتهبة”، الفرنسي/الألماني “ساحرات سالم” عن مسرحية “البوتقة” لهنري ميللر، الياباني “الفارس الأعمى”، ….
ولم تصمد “سينما حلب” في وجه الاختفاء على الرغم من الملايين التي دفعها صاحبها لإعادة شبابها، واليوم معروضة للبيع، وهي التي كانت في الماضي تحظى بتقديرنا، واحترامنا كإحدى الصالات المرموقة بأفلامها الفرنسية، والإيطالية.
جارتها “سينما فؤاد” بقيت مغلقة لسنواتٍ عديدة، وعانت طويلاً من تعقيداتٍ إدارية بين من يريد لها البقاء صالةً شاهدة على زمنٍ سينمائيّ مضى، ومن يرغب بأن تتحول إلى مبنى تجاريّ، اليوم انقصف عمرها، وأصبحت خراباً على أمل العودة إلى الحياة من جديد، وتجد لها مكاناً في المركز التجاريّ المُزمع تشييده.
وأمام أطلالها التاريخية، وجد الباعة المتجولين مستقراً مجانياً لهم، يفرشون أمامها ما تيّسر من البضائع المُهرّبة، والأقراص الرقمية المُقرصنة لأفلام من كلّ نوع، بينما يجلس الحالمون الباكون على الأطلال في “مقهى الموعد” المُواجه تماماً للصالة، يحتسون قهوة إيطالية مُركزة “كبسة”، ويدردشون في أمور الثقافة، والجهل، وما بين الحسرة، والأخرى، يلقون نظرةً مسرحية نحو الرصيف المُقابل حيث الفضاء الذي خلفه اختفاء الصالة، ويصدرون الآهات، والحسرات على زمنها، والأفلام التي كانت تقدمها.
وعلى بعد خطواتٍ منها، ما تزال “سينما الأوبرا” مستقرةً في مكانها، لم يتغير من معالمها غير الأفلام، وملصقاتها المثيرة لانتباه متفرجين قادمين من القرى القريبة، أو البعيدة، والذين لم يتيّسر لهم بعد شراء جهازٍ لالتقاط المسلسلات، والأفلام، ونسيان السينما إلى الأبد.
بمُحاذاتها “سينما الأهلي” ـ الريّو سابقاً ـ التي بدلت اسمها على مدى السنوات أكثر من مرة، ولكنها مغلقة هذه المرة، وبجانبها “سينما راميتا” ـ الأهرام سابقاً ـ تتبارى اليوم بعروض متواصلة لأفلام هندية، وأمريكية يتزعمها فان دام، وشاروخان.
“سينما رمسيس” التي توقفت عن نشاطها في عام 1988 بقيت على حالها بدون ملصقاتٍ، أو شباك تذاكر في مدخلها، ولكن، ما أن نعبر مدخلها حتى نجد أنفسنا في مقهى، وقد أفهمني أحد العارفين عن السبب، بأن أصحابها يمتثلون للقانون السوريّ الذي يمنع هدم صالة سينمائية (يتبع).