الكتيبة السابعة لإنقاذ الشريط الجريح

عبد اللطيف بن عمّار يناقش فيلمه في الدهليز

كمال الرياحي . تونس

في دهليز دار الثقافة ابن رشيق تقدمت الكتيبة السابعة ممثلة في مجموعة من الكتّاب والسينمائيين القدامى والمتقاعدين واحتلت الصف الأول أمام عبد اللطيف بن عمّار الذي جاء ليدافع عن فيلمه “النخيل الجريح” وإخفاقاته في أيام قرطاج السينمائية.
الكتيبة بدت متأهبة لأي تدخل. طوال حياتي أكره الصفوف الأولى لذلك ألوذ بالصفوف الوسطى إيمانا مني بأن الصحفي أو الكاتب من أصحاب الحناجر لا من أصحاب الخناجر لذلك فأينما حط رحاله يمكنه أن يطلق لسانه.
بدأ عبد اللطيف بن عمّار يطرح رؤيته لفيلمه وعوالمه وما أراد أن يقدّمه ثم لمّح إلى مشاكل أيام قرطاج السينمائية وانحيازها وقد خرج منها بجائزة الأطفال عن فيلم “النخيل الجريح” وبدت الجائزة أشبه ما تكون بجائزة أسوأ فيلم وأسوأ ممثل في المهرجانات العالمية.
قال عبد اللطيف بن عمار أنه أراد أن يقدم واحدا من البسطاء كما في فيلمه “سجنان” الذي قدم فيه “فلان” واحد من الشعب الذين ضحوا بحيواتهم من أجل الوطن وتحوّل إلى مجرد رقم. وقال ان هذا ما يحدث في الأراضي المحتلة حيث يتحول الشهيد الفلسطيني إلى مجرد رقم تعلنه وسائل الإعلام العربية بكثير من البرود على عكس ما تقوم به وسائل الإعلام الغربية في أن تهوّل الأمر عندما يخص مواطنيها وتنقل بالتدقيق حتى مشاعر الخوف التي قد يحسون بها من احتمال ضربة صاروخية كما حدث في اسرائيل والولايات المتحدة إبان حرب الخليج. إن المسلم العربي القتيل تحوّل إل مجرّد رقم في الإعلام  العربي يحصى كما يحصى أي شيء. وقال عبد اللطيف بن عمّار أنه قرر ألا يحمل الكاميرا إلا لتذكير التونسيين بالبسطاء الذين أكلهم التاريخ الرسمي.
 بدأ بن عمار في التفكير في فيلمه “النخيل الجريح” عندما بدأ يسأل الأطفال كيف يمكن أن تدافعوا عن وطنكم؟ هنا يقول بن عمار أن أمسك بموضوعه مع دهشة الأطفال وحيرتهم وقرر أن ينجز فيلما يقول للتونسيين أن الماضي يهمنا وبهذا يدخل في جدال مع الآخر لمحاسبته من خلال شخصية بسيطة هي كمال بن محمود الشهيد المنسي في حرب بزرت. بطل هامشي سقط في المعركة ونُسي.
قال بن عمار أن للسينما واجب لابد أن تقدّمه لذلك اهتممت بحرب بنزرت ورفضت شكل المدينة الحالي الذي شوهه المهندسون الجدد وأعدت بناء ديكوارات خاصة بالفيلم تعود بي إلى تلك السنوات.
لقد عرض فيلمي في افتتاح مهرجان قرطاج أمام 7000 متفرج وكنت فخورا بالنتيجة وأكد لي الجمهور المعجب أن هذه هي السينما التي أريدها. واحتج بن عمار عما سماه اتهام الفيلم بالبطء وقال أنه ليس نانسي عجرم وأنه يرفض سينما الكليبات.
وأضاف أنه راض عن فيلمه مائة بالمائة وأنه لن يقول كما يقول المخرجون الآخرون أنه لم ينجز إلا أربعين بالمائة منه لتغطية عيوبه. وقال انه استبعد من جوائز أيام قرطاج السينمائية لأن المهرجان بعد الطاهر شريعة لم  يعد تونسيا  فقد غيروا وفعلوا به ما أرادو “حطوا الزربية وحطوا والمرقوم وفرضوا حاجات خاصة بهم واختاروا ما شاؤوا من الأفلام حسب رغبتهم.”

ملصق النخل الجريح                                                                      أثناء اللقاء                     

المخرج عبد اللطيف بن عمّار حاول أن يقدّم فكرة جديدة  قديمة في السينما التونسية شارك فيها هو نفسه في فيلم سجنان وهي الاحتفاء بالمهمّشين الذين خدموا القضية التونسية في زمن الاستعمار وكانوا المناضلين الحقيقيين والذين تصدّوا للمستعمر بصدورهم ولكن التاريخ الرسمي همّشهم وغيّبهم. هذه الفكرة نفسها هي التي تناولها المؤرخون والباحثون التونسيون منذ سنوات ابتداء من المؤرخ والباحث د الهادي التيمومي في كتابه “المغيّبون في تاريخ تونس الاجتماعي” وصولا إلى الباحث فتحي ليسير في كتابه” الصعلكة الشريفة”.
وقد بدا عبد الطيف بن عمّار متحدّثا بارعا ولبقا وممسكا بزمام الحوار والتحاور خلافا لضيوفه أو أصدقائه الذين جاؤوا شاهرين أسلحتهم للهجوم على كل من يقدّم رأيا مخالفا في الفيلم الرائع والجميل والعبقري لبن عمّار والذين اعتبروا كل من يقول كلمة عنه هو من الجماعة المناوئة ومن الخونة والمتآمرين على السينما التونسية. وقد قالوها حرفيا بأن السينما التونسية تتعرّض لهجمة شرسة ومؤامرة مغرضة. لا ندري صراحة ممن؟ أمن التونسيين الذين خرجوا من قاعات السينما خائبين بعد اكتشاف ضعف أداء السينما التونسية مقارنة بنظيرتها العربية والإفريقية والأوروبية ؟
إلى حد الآن تدور الندوة في لقاء حر قدّم فيه عبد الطيف بن عمار فيلمه بشيء من الفانتازيا فقد حدثنا عن تلق رائع للجماهير التونسية وللصحافة التونسية للفيلم وأنه لمس ذلك النجاح بعينيه في مسرح قرطاج وفي القاعات السينمائية أثناء عرضه بأيام قرطاج السينمائية التي قبلت ترشيحه ممثلا للسينما التونسية.
وما إن قدمنا رأينا في الفيلم وسقوطه في الكليشيات وضعف الحبكة الدرامية وتساؤلنا عن مشروعية بعض المشاهد ولماذا أصبح الذم في بورقيبة الرئيس السابق للبلاد مطية الكل وشعار المرحلة بعد صدور العديد من الكتب حوله وما رأيناه في فيلم ثلاثون من تهميش لدوره في الحركة الوطنية، حتى انتفض السيد عمار خليفي وصب جام غضبه علينا متهما الشباب بالجهل وهو العصامي في الكتابة وفي السينما معا، :” انتموا الشباب عانينا برشا منكم …عانينا برشا منكم…” بدا السيد عمار يمر بحالة نفسية من نجاحات جيل الشباب من السينمائيين والذي بدأ يسرق الأضواء من جيله الذي بدأ يتراجع في أدائه.
 صاحب كتاب التغيير كيف ولماذا؟ نسي في غمار غضبه أنه في السنة الوطنية للشباب وفي السنة الدولية للشباب، نسي الشيخ أنه يوجّه اتهاماته لجيل مثقف ومتعلّم ولم تعد الايدولوجيا تنفع معه؛ جيل كفر بالأصنام لأن الزمن الذي جعل منه رائد للسينما في أيام الجهل والأمية قد ولّى والشباب الذي يحضر لعبد اللطيف بن عمّار جاء ليناقشه ويحاوره ويجادله حول فيلمه ولم يأت ليتلقّى دروسا في ورشة الكتيبة السابعة التي جاءت مدجّجة في تاريخها الثقيل بالولاء.
     وقف عمار الخليفي ليخلف الزعماء السياسيين ويلقن الدروس ويشتم في لغة متدنية تنم عن غربته التامة عن عالم السينما والفن وتذكّر بعصاميته حتى في المشافهة. ذكّرتني صورته وهو يهتز وينتفض بحوار أجرته معه جريدة الحرية فقبل أن يسأله الصحفي بادره بقوله : في بداية هذا الحديث أرغب في التأكيد أنني رائد السينما التونسية ومن له أدلة تخالف قولي فليظهرها فانا أول سينمائي …” جملة تكشف حالة الأنا المتضخّمة وبالبحث عن الألقاب الزائفة والأبوة غير المشروعة.

من الفيلم

عبد اللطيف بن عمّار استمع إلى كل الآراء والأسئلة بهدوء حتى المتطرّفة منها وأجاب عنها بذكاء ومن خلال صورة الشيخين علمنا مستوى الاثنين. والفرق بين أن تكون عصاميا وتنسى وبين أن تكون مهذّبا ومتعلّما وضليعا في ميدانك.
الصراع بدا مزعجا بين جيل شايب يقول ما يريد ويفعل ما يريد ويتلقى الدعم أيضا ويجنّد كتيبة من الضباط الأخيار للدفاع عنه ولو تطوّعا نتيجة حسابات نعرفها جميعا وجيل شاب يكبر يوما بعد يوما في السن والتجربة ويُجبر على أن يتلقى خرف الضبّاط ولا يقول شيئا.
محاولة إنقاذ الشريط الجريح بدت لنا فاشلة لأن الكتيبة بدت متحمّسة أكثر من اللازم وخنقت الجريح وهي تريد إنقاذه بالنفخ في فمه طويلا.

صحيح أن قيمة هذا الفيلم تتأتى من محاولته تحريك المياه الراكدة كما صرح بذلك مخرجه لكن تحريك المياه الراكدة ماذا يمكن أن يخلّف غير الروائح غير المرغوب فيها؟
أعتقد أن التونسي اليوم يبحث عن صوت وعن آخر يصرخ بدلا عنه وهو ما فعله عبد اللطيف بن عمّار وكل الأفلام التي صاحت واحتجت كانت بدائل لصوت المواطن الذي مل الأصنام ولكنه يظل يبحث طوال الوقت عن زعيم جديد. هذه الحاجة تجعل المتلقي مخدّرا بالفكرة وحدها لا يهتم بغيرها فيكفي أن تصرخ الشخصية بجمل أيديولوجية حماسية من نحو التاريخ يكتبه المنتصرون وهي عبارة قديمة حتى يندلع التصفيق على كليشي أكل عليه الدهر وشرب وحفظناه عن ظهر قلب وبطن. وكان يمكن أن يعالج الفيلم دون حاجة إلى هذه الجمل المنبرية المباشرة والجاهزة. الفيلم قدم رؤية وحللها وهذا في اعتبارنا من أخطائه الفادحة.
الفيلم يدور في فلك آخر وهو ردة الفعل على التاريخ الرسمي بعد خمسين سنة من الاستقلال كما كان مع الجزائر تماما التي أعادت قراءة نتائج الثورة التي سقطت بين أيدي الانتهازيين عبر الأدب والسينما ويمكننا أن نقرا هذا في أدب واسيني الأعرج  ونمثل لذلك بسيرة  لخضر حمروش وفي روايات الحبيب السائح وخاصة زمن النمرود وروايات الطاهر وطار التي تسببت في إقالته من وظيفته وإحالته على التقاعد المبكر ….

فيلم بن عمار يبقى فيلما محترما ولكنه يناقش ولا يمكن لحرب بنزرت أن تجعلنا نغمض أعيننا عن اخفاقاته ولا يمكن أن نتهم لجنة التحكيم في أيام قرطاج السينمائية بالتآمر على الفيلم. ذهب أحدهم إلى تشكيك في قيمة أنور براهم وأنه لا يمتلك ثقافة سينمائية مقارنة بغيره من أفراد اللجنة وهذا غير صحيح ولا فائدة من التذكير في علاقة الرجل بالسينما واضع الحان وأغاني وموسيقى تصويرية واخراجا واعتقد أن أيام قرطاج السينمائية لهذا العام فشلت فشلا ذريعا إلا في لجنة تحكيمها التي كانت لجنة محترمة خاصة بعد انسحاب السورية سلاف فواخرجي لأنها أصلا لا علاقة لها بالسينما.
 لا اعتقد أن عتيق رحيمي الأفغاني سيكون متآمرا على السينما التونسية مثلا. ثم إن كانت هناك مؤامرة ضد “النخيل الجريح” فلماذا لم تسند جائزة لفيلم”آخر ديسمبر” مثلا والذي بدا متناغما مع المطلوب غربا أو فيلم” سجل احتضار” الذي قدم فعلا صورة بشعة للرجل الشرقي التونسي، التي يعيش بعنفه وذكوريته حتى آخر العمر فلم تنفع تلك النسوية الفيلم ولم يحصل على جوائز. حقيقة بدا لي أن لجنة التحكيم كانت محرجة ومسكينة، كيف تحكّم في تونس ولا تجد أي مبرر لتسند جائزة لفيلم تونسي طويل من ثلاثة مرشحة.
إن ثقافة المؤامرة التي نعيشها تجعلنا نتأخر كل يوم في الأدب والفنون لأن هناك حراس نوايا دائما يحوّلون الفشل إلى نجاح والإخفاق إلى ظلم.
هذا الإحساس بالعبقرية ربما هو الذي كان يحرك عبد اللطيف بن عمار الذي لم يسمع أبدا كما يقول في شهادته أي رأي مخالف وأن الجميع كانوا سعداء بفيلمه الرائع حتى انه يقول في بداية اللقاء لقد أبهرت الحضور في العرض الخاصة بالصحفيين والحقيقة غير ذلك فكثير من الصحفيين خرجوا مستاءين من إفشال أفق انتظارهم لأن كل الصحفيين عندهم فكرة عن أجواء الفيلم وخلفيته قبل حضور العرض لكن الشكل الذي ظهر به هو الذي أربكهم. نعم نحن مع الفكرة ولكن لسنا مع الأداء. 
ربما كان الفيلم يستحق جوائز عن التصوير عن أداء بعض الممثلين ولكن انتزاع الجوائز الكبرى لا أعتقد مع العلم أن بقية الأفلام الفائزة هي أيضا ضعيفة نتيجة ضعف الدورة نفسها. وقد سبق وتحدّثنا عن هذا الضعف وهاهو داوود عبد السيد يعود بلا جائزة باستثناء جائزة أفضل ممثل وفيلمه مرشح للأوسكار عن السينما المصرية برمتها ولم نسمع أن اللجنة ظلمته فهل فعلا ستتواطأ اللجنة مع الشباب المصري ضد مخرج مكرّس في السينما المصرية داوود عبد السيد؟.إذن المؤامرة ضد السينما المصرية وليست ضد السينما التونسية وربما ضد السينما الإفريقية.
عبد اللطيف بن عمار نصحنا في آخر اللقاء بأن نصبر ونشاهد الفيلم مرات أخرى لنفهمه ففيلمه “سجنان” أيضا لم يلق استحسانا في البداية ولكنه أصبح مرجعا, عبارة أخرى لطيفة من سينمائي لطيف مثل عبد اللطيف بن عمار الذي يذكّرنا بأنه يخرج أفلاما صعبة لا يمكن أن تسلم نفسها من الوهلة الأولى .
لن نقول في النهاية أن ما شاهدناه وما عشناه تصح عليه عبارة “المديح العالي للمربط الخالي”لأن الفيلم ليس بذلك السوء ويظل محترما وتظل النوايا طيبة وقد كانت واضحة في حكيه الشفوي لكنها لم تقنع في حكيه الفيلمي.
صفوة القول عبد اللطيف بن عمار من خيرة السينمائيين التونسيين ونأمل أن تكون أعماله القادمة أكثر جودة وأن لا يحتاج إلى كتائب لتدافع عنه لأنه أجاد تقديم فكرته وفيلمه وأن من أراد تحويله إلى صنم أضر باللقاء والحوار أكثر مما نفعه لأن هؤلاء أصلا من المؤرخين الذين حاربهم بن عمّار في فيلمه ومصادرة مناقشة فيلم مثل “النخيل الجريح” بما يلامسه من فكرة تهم المجتمع برمته وبهويته يجعلنا ننتقل من التاريخ الذي كتبه المنتصرون إلى التاريخ الذي يكتبه المخرجون وكلها تواريخ سينمائية …


إعلان