الوثائقية تدعم مهرجان موريتانيا السينمائي…

 ما تلفظه البلاد يتلقفه الوثائقي
حسن المرزوقي..نواقشوط

انطلق هذا الأسبوع في العاصمة الموريتانية نواقشوط “الأسبوع الوطني للفيلم” في دورته الخامسة وهي التظاهرة السينمائية الأبرز في هذا البلد. وتسهر على هذه التظاهرة دار السينمائيين الموريتانيين  وهي مؤسسة مستقلة تأسست سنة 2002 من قبل بعض السينمائيين الموريتانيين وعلى رأسهم المخرج عبد الرحمان ولد السالم مدير الدار.

تضم هذه الدورة 58 فيلما منها 33 فيلما موريتانيا. ويمثل الفيلم الوثائقي نصيب الأسد حيث يشارك 32 فيلما وثائقيا ذلك أن المسابقة الرسمية هي مسابقة الوثائقي. وتتكفل الجزيرة الوثائقية هذه السنة بتقديم الجائزة الأولى للفيلم الوثائقي. أما المسابقة الثانية فهي تحت عنوان “هل تتكلم لغة الصورة؟” وهي مخصصة للمخرجين الموريتانيين الهواة.
إن الانطباع الأولي لهذا المهرجان المبتدئ هو أنه مهرجان يحاكي وضع الثقافة بشكل خاص ووضع موريتانيا بشكل عام. فهو مهرجان يحاول أن يجد لنفسه هوية ويخط طريقه في ظروف صعبة بل وقاسية تجعل كل مجهود يبدو لنا كمراقبين من الخارج بسيطا إلا أنه يمثل مشروع وحلم بالنسبة للنخبة السينمائية في موريتانيا. لذلك يخطئ من يقارن المهرجان بغيره من المهرجانات المعروفة في المنطقة. ولعل صعوبة هذا الوضع حالت دون تحول المهرجان من مهرجان محلي إلى مهرجان دولي وكان مقررا لهذه الدورة أن تكون فاتحة هذا التحول.
 فأمام ضعف التمويل وتخلي سلطة الإشراف عن الدعم وعدم وجود سياسة ثقافية إستراتيجية واضحة. ونظرا لهشاشة الوضع السياسي واختلاط الأولويات بين الدولة والمجتمع، أمام هذا الوضع فإننا نقنع بما يحققه المهرجان دورة بعد دورة. دون أن يعفي المسئولين عليه من النقد لتلافي بعض النقائص التي لا ترتبط فقط بضعف الإمكانيات وإنما لها علاقة بالعقلية المنظمة أيضا.

عروض في الهواء الطلق

وانعكاس الوضع الموريتاني على السينما البادي على التنظيم والإمكانيات رصدناه أيضا في مستويات فنية وجمالية مختلفة. ولعل أولى تلك المستويات هي إقبال الشباب على الفيلم الوثائقي واجتهادهم الملموس بل وحتى جودة مشاريعهم مقارنة بالمشاريع الروائية التي قدموها. وهذا “الهروب” نحو الوثائقي يبرره أولا ضعف الإمكانيات وشح التمويل فيأتي الوثائقي ليترك عجلة السينما تسير ببطء على الأقل من حيث الكم كي لا تتوقف وبأقل الأثمان. كما يبرره أيضا الوعي العام هنا لدى أغلب الشباب الهاوي للسينما بأن الوثائقي عليه أن يصور بؤس المجتمع ومشاكله أي هو نقل للواقع وليس بناء فني للواقع. هذا الوعي لمسناه من محاوراتنا مع هؤلاء الشباب الذي يقفز إلى التنظير والتلويح بالرسالة التي يريد إيصالها قافزا وكأن الكاميرا بالنسبة إليه هي المنقذ لمن يحبهم من أبناء شعبه.   
 يبدو كذلك حضور الوضع الموريتاني في المهرجان في مستوى مواضيع الأفلام حيث غلبت على أفلام الشباب الموريتاني إشكالية الهوية والأصالة وفي نفس الوقت التوق إلى التحديث والسعي إلى النهوض. وهي الإشكاليات المفصلية في الخطاب السياسي وخطاب النخبة الموريتانية. ففيلم “حكاية صورة” لأحمد ولد السالم تناول قصة تأسيس نواقشوط في أواخر الخمسينات من خلال صورة أول حجر وضعه الفرنسيون في هذه البادية واستعرض الحيثيات التي أدت إلى اختيار هذه المنطقة دون غيرها من الخيارات. وكذا الأمر مع فيلم “ذاكرة الشرق” لمصطفى البان الذي يسلط على القاع الثقافي لمنطقة الشرق الموريتاني حيث البادية في معناها الحضاري الذي يميز الثقافة الموريتانية عامة. وكذلك فيلم “ظل الولي” الذي تناول موضوع الطريقة “الموريدية في السينغال”بحكم أن التراث الطرقي محدد أصيل لهوية المنطقة.
أفلام أخرى نقلت صورة مباشرة عن المشاكل الاجتماعية في موريتانيا مثل التمييز في الزواج على أساس الانتماء والطبقة أو الوضع الاجتماعي لوضعية المرأة كفيلم “مشاعر أخرى لـ” للا منت كابر” الذي يتناول قصة فتاة موريتانية من عائلة محافظة ووقعت في غرام شاب حامل لثقافة متحررة وتخلى عنها وتركها ضحية العائلة والمجتمع. أو فيلم “كباب” الذي يعرض معاناة الشباب من البطالة ومحاولة التكيف مع مجتمع يبحث عن طريقه نحو التحول.

وتبدو تبعية السينمائي للسياسي جلية في شعار المهرجان الذي يتزامن مع الذكرى الخمسين للاستقلال فكان شعار الدورة “خمسون سنة من الاستقلال .. خمسون سنة من الأمل” مما وجّه الأفلام توجيها نحو إشكالية الهوية والأسئلة الثقافية الحارقة التي تتداولها كل من السلطة والنخبة الموريتانية ويتم استثمارها سياسيا. فنلاحظ شكلا من أشكال الاتصال بين الأفلام ومناسبة الاستقلال. من خلال الأفلام التي تؤرخ للبلاد أو لمنطقة من البلاد.
أما المظهر الأخير من مظاهر العلاقة بين المهرجان وقضايا المجتمع الموريتاني فلحظناه في مستوى الجمهور حيث لاحظنا أن التصفيق يتعالى كلما مرت على الشاشة صور الرموز الوطنية كمختار ولد داداه مؤسس موريتانيا وأب الدولة الوطنية أو إذا ركزت الصورة على مظاهر البؤس الاجتماعي ومعاناة الكادحين حيث يتفاعل الجمهور بشكل لافت وحماسي كما في فيلم “القولاب” الذي يتناول حكاية طفل موريتاني يدرس ويشتغل في مصب للنفايات ويحلم بأن يكون وزيرا أو رئيسا للبلاد.فتتعالى الأصوات ويشتد التصفيق.  وكذا الشأن مع مشاهد البداوة وعالمها حيث يستقبلها الجمهور الغفير بنوع من حرارة الانتماء والخوف على ضياعها. فإذا نحن أمام جمهور جاء للمهرجان ينتظر منه رسالة تمسه وتعبر عنه ولما وجدها وبشكل مباشر وصريح في الأفلام الوثائقية طلب الاستزادة أو على الأقل لم يهجر ساحة العرض.
 
ولعل من العلامات التي تدعو للإعجاب في مهرجان موريتانيا أن الإقبال الشبابي على السينما وممارسة الكاميرا في موريتانيا يفوق كمّا وكيفا عدة دول أخرى تفوق موريتانيا في الإمكانيات والدعم. فمنذ ليلة الافتتاح لم ينقص الجمهور بل يزيد ليلة بعد ليلة ويحضر المئات بشكل غفير من مختلف الأعمار ومن الجنسين. وكانت فكرة العرض في الهواء الطلق من الأفكار التي فرضتها إمكانيات المهرجان المتواضعة ولكنها كانت مفيدة من الناحية التنظيمية والجمالية حولت المهرجان إلى عرس سينمائي وفني غذته بعض العروض الموسيقية والفنية من الفن الموريتاني المحلي. وكذلك أثرته ورشات العمل التي تقام بشكل يومي ومطول حول كتابة السيناريو والتصوير والإخراج … ولاحظنا صرامة المنظمين في الحرص على إنجاح ورشات العمل معولين على مردوديتها بعد المهرجان.
في الأثناء ستقيم الجزيرة الوثائقية ندوة موسعة ومفتوحة مع المخرجين الموريتانيين بحضور بعض ضيوف المهرجان مثل السيد رضا بن حليمة من جامعة السينمائيين الهواة بتونس ومحمد بوحاري مخرج مغربي مقيم في بلجيكا وأوا تراولي متخصصة في توزيع الأفلام الوثائقية في الدول الأفريقية وثلة من ممثلي الصحافة المحلية والعربية والدولية. وستتناول الندوة تجربة الجزيرة الوثائقية في إنتاج الوثائقي كما سنستمع إلى مشاكل الشباب ومحاولة التفكير في الحلول وتبادل الآراء والأفكار والخبرات.

من مناقشات المهرجان

ومن الأنشطة التي غذت تفاصيل المهرجان والتي تستحق التثمين هي تظاهرة “سينما الشوارع” التي تكفل بها فريق مهرجان طريفة للسينما الإفريقية الذي يقام سنويا في الجنوب الاسباني ليحتفل بالسينما الأفريقية. حيث اشتغل الفريق بلا كلل لنقل السينما إلى الأحياء الفقيرة والمظلمة والمنعدمة الإمكانيات في العاصمة وما جاورها وقد صحبناهم ذات ليلة في أحد عروضهم في الأحياء ولمسنا عن كثب اجتهاد هذا الفريق في إسعاد الأطفال والفئات المحرومة وكان الإقبال مهما ومبهجا بالنسبة لسكان تلك المناطق البائسة  والتي لم تختر بؤسها.     

إن السينما في موريتانيا كما الشعر وبقية الأشكال الإبداعية مسكونة بالهم السياسي ومؤسسة على مباشرية الخطاب. فلا مجال للرمز والأولوية للحقيقة أو لفهم جمعي ما للحقيقة، لذلك كان حضور الوثائقي كثيفا لأن صانعيه حشروه في زاوية من زويا التفكير الجمعي وأوكلوا له مهمة حمل حقيقة ينوء بها كاهل الفيلم الوثائقي.
 


إعلان