كما قال الشاعر2

بشار إبراهيم

إذا كان المخرج نصري حجاج قد صدَّر فيلمه الوثائقي «ظل الغياب»، بجملة متقطفة مما قاله الشاعر محمود درويش: «ليدين من حجر وزعتر»، فإن القدر وضعه مباشرة أمام رحيل هذا الشاعر، المفاجئ والمباغت، ليجد نفسه أمام انتقالة غير بعيدة المدى، وإنما انعطافة ذكية، من مهمة التجوال في العالم بحثاً عن قبور الفلسطينيين الذين رحلوا دون أن يتمكنوا من العودة إلى أوطانهم.. إلى التجوال في العالم بحثاً عن صوت الشاعر محمود درويش، يتردد على ألسنة نخبة مختارة من أدباء العالم؛ مشرقه ومغربه.
لم يكن نصري حجاج قد نفض يديه، بعد، من وثائقيه «ظل الغياب». لا وضعه في الدرج، ولا على الرفّ، عندما ووجه، على المستوى الشخصي، كما على المستوى العام، بغياب الشاعر محمود درويش. كان «ظل الغياب» ما يزال حاضراً، وطازجاً، كما هو اليوم، وفي الغد. وكان ثمة أفكارا تتوالد من تلك الملحمة البصرية التي نسجها، مفاجئاً الجميع بالموضوعة، وطريقة البناء، وسعة التجوال، وعمق الإطلاع، على الرغم من مرور نيف وأربعين سنة على ولادة السينما الفلسطينية، على أيدي الثورة الفلسطينية، وما انتبه أحد إلى سفر الغياب الفلسطيني على هذا النحو.
يغيب الشاعر محمود درويش، وما كان لغيابه أن يكون أقل ضجيجاً من حضوره، إذ أنه الشاعر الذي «أضحى، منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، «ظاهرة شعرية» ملفتة، تكاد تختزل في ذاتها، عند الكثيرين من الفلسطينيين والعرب، ربما، وفي العالم أيضاً، التجربة الشعرية الفلسطينية، في عمومها!.. «ظاهرة» يصعب تغافلها، أو نكرانها، وإن كان ليس من الصعب قراءتها، وتفكيكها، سواء على المستوى الفني الجمالي الشعري، أو على مستوى مضامين الخطاب الفكري، وانعكاساته السياسية، ذات المعطى الوطني التاريخي، في هذه الحالة»، كما قلتُ ذات وقت، وأكرره هنا.
والمشاهدة المتأنية لفيلم «كما قال الشاعر»، وعبر دقائقه المنسوجة بمهارة (مدته 58 دقيقة)، تبين لنا بوضوح المنهج الذي اختاره المخرج نصري حجاج في التعامل مع غياب الشاعر محمود درويش، وحرصه على المرور بحذر بين أصابع كل ما يمكن للمرء أن يتوقعه، أو ربما سيشاهده فيما بعد، من طرق مألوفة تتغنى بالشاعر، وتستعين بمقتطفات من حوارات ولقاءات سابقة معه، أو تعتمد على الاستعانة بلقطات أرشيفية، سواء من مناسبات ما، أو أمسيات شعرية، لن تكون قليلة في حالة الشاعر محمود درويش، الذي اشتهر، فيما اشتهر به، أنه كان شاعراً غنائياً، صدّاحاً على المنابر، متقناً صنعة الإلقاء.

الشاعر                                                                   …والمخرج                    

الاختلاف الذي يسعى إليه المخرج نصري حجاج، والذي تجلى من قبل في «ظل الغياب»، سوف يستكمله هنا، في «كما قال الشاعر»، حتى وإن كان في النهاية يتعامل مع غياب فرد، طافت الآفاق شهرته، ونقلت اللغات قصائده. من هنا سنراه وهو يتنقل بين العديد من الأمكنة والبلدان، محاذراً التوقف في أيّ لحظة، من لحظات الفيلم، للتعامل التقليدي مع سيرة الشاعر الذي غاب، سواء باستعادات أرشيفية، أو استضافات متاحة للكثيرين ممن عايشوا الشاعر الراحل، وصادقوه، وزاملوه.. أو حتى اختلفوا معه.
لن يتنكّب المخرج، وفيلمه، مهمة تقديم الشاعر، أو التعريف به، أو حتى الخوض في مغامرة كشف الجديد والمثير، مما لا يُعرف عنه. إنه ينطلق من بدهية، يفترضها، ويؤمن بها، خلاصتها أن الشاعر محمود درويش، إنما هو شاعر معروف تمام المعرفة. مقروء تمام القراءة. بل ويحفظ قصائده الصغار قبل الكبار. وغنى أشعاره مغنون.
هذه الانطلاقة، التي قد تثير شيئاً من التساؤلات، تتبدى أكثر إشكالية، عندما ننتبه إلى حقيقة أن المخرج، وفيلمه الوثائقي، لم يأبها معاً للقيام بأي حالة حوار، أو نقاش، أو جدال، حول/ أو مع الشاعر، الذي بدا كلّي الحضور، لا يأتيه الباطل، ولا يطاله الزلل، أو الفشل (حتى في زيجاته)، أو التقلّب في مواقفه!.. إنه، كما يبدو في الفيلم، صورة منقاة من كلِّ ما فينا نحن البشر؛ شاعر يحلق في الآفاق، يُجلس الفيلم كبار أدباء العالم، كما التلامذة، يتلون أشياء من قصائده، ومقاطع من أشعاره، ويتولهون تيهاً وإعجاباً بها!.. ويتخلى الفيلم، بطواعية تامة عن تقديم أي معلومة عنه، أو مناقشة أي قضية بصدده، خاصة وهو الشاعر الكبير إبداعاً، كما هو الكبير إشكاليةً!..
يدرك المخرج نصري حجاج، ربما، أنه في فيلمه هذا أمام حالة احتفاء!.. لا أمام حالة معرفية، ولا استقصائية.. والمعرفة أو الاستقصاء هي مهمة أساسية من مهمات الفيلم الوثائقي. الفيلم، كما يبدو لأكثر من مشاهدة، لا يعدو أن يكون حالة فيها الكثير من البهاء، والرخاء، دونما أي تساؤل، لئيم، من طراز: لماذا تحضر كل هذه الأمكنة الفاخرة التي مرَّ بها الشاعر، دون أن يحضر مخيم واحد، فقط؟.. ولماذا يمكن للشاعر أن تكون له غرفة أثيرة في فندق «ماديسون» في باريس، ولا توجد لديه أيّ غرفة أثيرة في مخيم عين الحلوة، كما للمخرج نفسه، أو في مخيم دنون، كما لي شخصياً؟..

حالة من الترفّع عن الواقع، تمتد على مدى الفيلم، وتستطيل.. وحتى ظهورات المخيم، أو أطفاله، أو تلاميذه، بدت أشدَّ ترفعاً عن الواقع.. هل ترانا ننتبه إلى أن الفتيات اللواتي وقفن في باحة مدرسة «مخيماتية»، يتلين مقطعاً شهيراً، وبارعاً، للشاعر الراحل، وجدن أنفسهن، دون دراية منهن، يقلن إن مما يستحق الحياة «كتابات أسخيليوس»؟!.. «إسخيليوس».. نعم!..
يترفّع الفيلم عن الواقع، ويحلق في فضاءاته، والمخرج يتقصد هذا!.. لعله اعتقد أنه لايمكن صناعة فيلم عن شاعر كبير، بحجم محمود درويش.. دون أن يكون الفيلم نفسه شاعرياً!.. هل ترانا الآن في موقف من يناقش المخرج، بلاحتمية هذه المعادلة، وخطلها؟.. وأنه إذا كان الموضوع عن شاعر مقاومة، أو شاعر قضية، أو شاعر شعب، أو شاعر أمة.. فإن من الممكن للفيلم أن يأتي نثرياً، واقعياً، يغوص في عمق الواقع؛ واقع المقاومة، واقع القضية، واقع الشعب، واقع الأمة؟!..
هنا، في وثائقي «كما قال الشاعر»، لا تغيب هذه المفردات كلها، معاً، فقط!.. بل يغيب الشاعر نفسه، ليبقى صوته. وصوته هنا، هو صوت الأنا. لا صوت الكل. ليس صوت نحن. ولا صوت هم. إنه صوته هو. وصوته هو، ربما كان العامل الأساس في بناء الفيلم، على هذا النحو. وإلا كيف نفسر تجوال الفيلم، واقتفاء أثر الشاعر ذاته، من قرية ولد فيها، إلى قرية عاش فيها شيئاً من فتوته. ومن غرفة في مدينة، إلى غرفة فندق، وحتى غرفة المشفى. ومن منبر إلى مدرج إلى قاعة؟!.. وكيف ترانا نبرر المشاهد التمثيلية الارستقراطية الطراز؟!..
يخيم صوت الشاعر محمود درويش على الفيلم كله. إن لم يكن بصوته الفيزيائي، فعبر صوته المُستعار، بألسنة عديد من الشعراء والشاعرات، الكبار والمشهورين منهم، والشباب والمغمورين منهم. وهذا الخيار، ذاته، جعل الفيلم يأتينا ببنية مفتوحة، يمكن أن تضيف إليها، وتحذف منها، ما تشاء من شعراء وشاعرات. بل إن هذا النسق سوف يثير السؤال الغبي: لماذا اختار المخرج هذه المجموعة من الشعراء والشاعرات، ولم يختر غيرهم؟.. لماذا أضاف فلان، أو فلانة؟.. ولماذا تجاهل فلان، أو فلانة؟..
وهل كان بالضرورة أن نرى على الشاشة قراءً من طائفة الأصدقاء والمريدين للشاعر، حتماً؟.. أما كان بالإمكان الإتيان ببعض ممن اختلفوا مع الشاعر، وانتقدوه، أو حتى ظاهروه؟.. ونحن نعلم أن من اختلف مع الشاعر محمود درويش، في حياته، إنما كان ذاك الخلاف معه لأسباب وطنية، ومعطيات سياسية، وقضايا فكرية، ومواقف عملية.. وليس لأسباب فنية شعرية!.. وألا ننتبه، هنا، إلى أنه حتى الشاعر الإسرائيلي الذي حضر، إنما جاء بصفته صديقاً للشاعر، وليس بصفته عدواً؟!..

كتبتُ ذات مرة، تقديماً لكتاب غاية في الحصافة، والأهمية للباحث أحمد أشقر، فقلتُ إن الشاعر محمود درويش، في تحولاته الفكرية، التي انعكست واضحة في أشعاره، قام بنزع صفة «العدو» عن الإسرائيلي، واستبدلها بصفة «الغريب».. ومن عجائب المصادفات أن يُسبق الفيلم حضور الشاعر الإسرائيلي بمقطع عن «العدو»، ويُعقبها بمقطع عن «الغريب»!.. هل هي مصادفة محضة؟!.. ربما!.. ولكنها ذات دلالة عجيبة، في كل حال!..
يقتفي المخرج نصري حجاج أثر غياب الشاعر محمود درويش، ويلاحق آثاره أينما تنارث في أصقاع المعمورة.. وهي في غالبيتها آثار فاخرة، لن يحلم بتفاصيلها لاجئ مأفون بعثرات المخيم، ولا مغبون بذل اللجوء، والتشرد.. وينصاع الفيلم لصوت الشاعر، كما قال الشاعر ذاته، وعن ذاته، منتخباً تلك المقاطع التي توغل في الابتعاد عن العام، لتغوص عميقاً في الشخصي؛ الخاص والذات، تحديداً، ورؤيتها. فليس في وثائقي «كما قال الشاعر»، شيئاً مما قاله الشاعر ذات وقت مضى، عندما كان شاعر الثورة، من طراز: «سجل أنا عربي».. أو عندما كان شاعر المقاومة: «فعلام لا تغضب؟».. ولا حتى عندما كان غاضباً، مرة، وقال: «آن أن تنصرفوا».. الفيلم يدور، بكليته، حول آخر ما انتهى إليه الشاعر: «لاعب النرد»، وما يشبهها من قصائده متقنة.. متقنة نعم!.. ولكن تعلو فيها البلاغة اللغوية، والمبالغة الفلسفية، إلى درجة انقطاعها عن الواقع. يتلهى بها المتفيقهون، المتثاقفون، ومحبو سكّر الكلام!..
لن تلهينا هذه التساؤلات عن الانتباه إلى البراعة الفنية التي أظهرها المخرج نصري حجاج في فيلمه هذا، وضمن خياراته التي أرادها، والتي يحق لنا أن نختلف معها. سواءً انتهجها مأخوذاً بفجيعة الرحيل المفاجئ، أو ضجيجه العالي، أو لموقف شخصي خاص!.. أو بحثاً عن أسلوب مغاير، للتعامل بصرياً مع شاعر أمكن له أن يكون «ظاهرة شعرية»، استثنائية، لن ينكر مهارتها الشعرية، وبلاغتها الإبداعية، صديق أو عدو!..
والمغايرة البصرية، والسمعية، استطاع المخرج نصري حجاج توفيرها، بداية من الاستعانة بمديرة تصوير بارعة (جوسلين إبي جبرائيل)، وبالموسيقية المدهشة (هبة القواس)، التي قدمت للفيلم افتتاحية موسيقية صارخة.. مدهشة.. تتكئ على نص درويشي.. إنه نص موسيقي ارتجالي أبدعته، وأمامها ثلاث صفحات، من قصيدة مكتوبة بخط اليد. في هذا المشهد تتبدى براعة المخرج نصري حجاج، حيث نرى اشتعال الموسيقى، فيما الكاميرا تستعرض الكلمات والسطور.
هذا المشهد الافتتاحي، كما مشهد الختام الأسطوري، لنهوض الحصان من تحت الرمال، كما مشهد الأبكم، تؤكد بقوة براعة المخرج نصري حجاج المدهشة، وقدرته على صناعة فيلم وثائقي متميز.. لا يقلل من ذلك، أبداً، ملاحظاتنا الجوهرية على ما بينهما؛ بين مشهد الافتتاح والختام. بل تجعلنا ننتظر بشوق قادمه الوثائقي، الذي يُعدُّ له، ويتهيأ.


إعلان