السينما الدادائيّة

تستخدمُ قليلاً من الملح، والبهار، وبعض الدبابيس والمسامير
وتبدعُ بياناتٍ ضدّ الحكايات والتقارير..

صلاح سرميني ـ باريس

وُفق قاموس (Le Petit Robert)، كلمة “Dada” تعني “حصانٌ من الخشب” بلغة الأطفال، كما تُشير إلى موضوعٍ مُفضل، أو فكرة نعود إليها باستمرار، وأخيراً، اشتقّ منها مُصطلح الدادائية/ Dadaïsme الذي اعتمدته حركة فنية، أدبية، وثورية ظهرت في عام 1916 .
وفي المُجتمعات العربية تحديداً، تُعتبر “Dada” واحدةً من ثلاث كلماتٍ ينطقها الأطفال في سنٍ مُبكرة: بابا، ماما، دادا(الأخ، أو الأخت)، وتعني بالنسبة لهم أشياء كثيرة، ولا شيء على الإطلاق.
بدورهما، يعتقدُ الباحثان الفرنسيّان ” Henri BEHAR”، و” Catherine VASSEUR” بأنّ مشاهدة، وقراءة أعمال الحركة الدادائية اليوم بمثابة معجزة على الرغم من الاضطهاد الذي عانته من طرف النظام النازيّ (كانت الوحيدة التي أشار إليها هتلر بشكلٍ صريح في كتابه “كفاحي”)، وإحراق أولئك الذين استهلكوا “الفنّ المُنحط”، والطبيعة الهشة للمواد المُستخدمة القابلة للتلف، وبشكلٍ خاصّ، العداء ضدّ البورجوازية في تلك الفترة، والتي يمكن الاعتقاد بأنها كانت مُتحررةً بما يكفي، أو “مازوخية” كي تقبلَ، وحتى تُكرّس أولئك الذين لم يتوانوا عن استهدافها بغرض تحطيمها، وأكثر من ذلك، استعجالها إلى المعارض الفنية، ومُزايداتها في صالات البيع، والاحتفاظ بعنايةٍ في خزائنها بأعمالٍ هي في جوهرها سريعة الزوال.
لقد أنشأت الحركة الدادائية أسطورتها الخاصّة بتقديم نفسها “تدميرية”، و”إرهابية” سواءً في الفنّ، الأدب، أو الأخلاق الاجتماعية، أو الفردية.
تاريخياً، انطلقت من “زيوريخ” في بداية عام 1916، وتوسّعت حتى ألمانيا، فرنسا، والولايات المُتحدة، ولكنها لم تُعمّر طويلاً، حيث أعلنت عن نهايتها عام 1923 مُمهدةً للحركة السوريالية التي ظهرت في فرنسا مباشرةً بعدها، ولكلّ الأساليب، والمُمارسات اللاحقة في السينما التجريبية.
وقتذاك، في قلب الحرب العالمية الأولى كانت الأجواء نزقة، والمجزرة الكبرى تحصد آلاف الجنود تاركة خلفها العائلات الثكلى، والقلوب المُنكسرة، لم تكن أوروبا أكثر قتامة، وتمزقاً من أيّ وقتٍ آخر.
في فبراير من عام 1916 حاولت مجموعة من الثوريين تحويل طاقة الرياح، عندما وصل المخرج “Hugo Ball”، وزوجته الراقصة، الشاعرة، والكاتبة ” Emmy Hennings”إلى “زيوريخ”، وقررا معاً تشكيل “حانة فولتير” التي تمثلت مهمّتها في الترفيه عن أتباعها عن طريق برامج موسيقية، وشعرية يؤديها فنانون حاضرين من بين الجمهور، وعلاوةً على ذلك، شجعا الشباب على المُشاركة في البرمجة من خلال طرح اقتراحاتهم، وأفكارهم، وهكذا، استقطبت الحانة الشخصيات الكبيرة، وأصبحت فيما بعد منصةً حقيقية للحركة الدادائية، وكان من بين روّادها :
الشاعر الرومانيّ ” Tristan Tzara”، الشاعر الألمانيّ ” Richard Huelsenbeck”، النحات الألزاسيّ ” Jean Arp”، والرسام الألمانيّ ” Hans Richter”.
وعن طريقها، اعتزم هؤلاء المُغايرين اختراق المُعاهدات المفروضة في الفنّ، والأدب، والتفاني الخالص لحرية الإبداع في كلّ أشكاله، وقد فرضت الحركة نفسها بدون زعيم، كان كلّ واحدٍ من الدادائيين قائداً في مكانه.
في عام 1915، وبفضل ثلاثة من الدادائيين الفرنسيين ” Marcel Duchamp”، “Man Ray”، و” Francis Picabia “، أرست الحركة قواعدها في الولايات المُتحدة، وبشكلٍ خاصّ في المدينة المُؤثرة “نيويورك”.
خلال إقامتهم هناك، عرضَ الثلاثة أعمالهم، ونشروا في مجلة أسموها 291 التي لم تحظَ بنجاحٍ مُتوقع، وبعد محاولاتٍ غير مُثمرة، عادوا إلى أوطانهم قائلين:
” Dada لا يمكن أن تعيش في نيويورك”.
في عام 1918 تٌوجت الدادائية بانضمام الرسام، والنحات” Marcel Duchamp ” إلى مجموعة “زيوريخ”، الذي منح تأثيراً كبيرا للحركة التي امتدت في وقتٍ قصير إلى حدود أوروبا، ثم توسّعت دولياً، وبدأت فلسفتها تُثير، وتُكيد في نفس الوقت .

فنّ الصدفة المُنظمّة..

لم تمتلك كلمة “Dada” إطلاقاً أيّ دلالة خاصّة في علاقتها مع الحركة، ويعود الفضل في اختيارها إلى الكاتب، الشاعر، واللغويّ الفرنسيّ من أصلٍ رومانيّ “Tristan Tzara” الذي وجدها بالصدفة عندما كان يتصفحُ قاموساً بطريقةٍ عشوائية، كما يعود إليه استحقاق تفسير روح الحركة نفسها من خلال عبارته الشهيرة:
” تضعُ الدادائية الشكّ قبل الفعل، وقبل كلّ شيء : تُشككُ الدادائية في كلّ شيء”.
وهكذا تجسّدت أهدافها الجوهرية بمسح الماضي، وطرح التساؤلات المُعمّقة حول جميع الاتفاقيات، والقيود الإيديولوجية الفنية، والسياسية، وبشكلٍ خاصّ، الازدراء من الحرب، وخطورتها باعتبارها عبثية.
وبالمُقابل، أبرزت الروح الطفولية، واللعب مع المألوف، والاعتياديّ، ورفضت العقل، والمنطق، وتعمّدت المُغالاة، والغرابة، واستثمرت السخرية، والفكاهة، بدون إغفال رغبتها بإبهار، وصدم الجمهور الذي وقع بين خيارين، إما أن يحبّ نتاجاتها، أو يرفضها تماماً (كان الدادائيون يعشقون تشويه الأعمال المعروفة سابقاً، المُوناليزا على سبيل المثال، حيث نجدها في لوحةٍ لـ “Marcel Duchamp”بشاربيّن).
وعندما رفضت الدادائية قواعد الرسم التقليدي، وقف الدادائيون حائرين أمام اكتشاف أشكالٍ جديدة كي لا ينعتهم أحدٌ بأنهم ينفون كلماتهم الخاصة بهم، ومع ذلك، كانوا يكتشفونها بالصدفة.
في أغسطس من عام 1927 حكى “Man Ray” في المجلة الطليعية ” Close Up” عن إحداها:
(لقد صورتُ أحد المشاهد الأكثر إثارةً للاهتمام من فيلمي ” Emak-Bakia” وكنتُ في سيارتي المرسيدس المُخصصة للسباق أهتزّ بشكلٍ رهيب، وأنا أمسكُ كاميرتي الصغيرة، وأصورُ بها عندما التقينا في الطريق بقطيعٍ من الأغنام، كبست ” Rrose Sélavy”(شخصيةٌ متخيلة) على الفرامل، وتوقفت السيارة على بعد متر منها، ومنحتني تلك الحادثة فكرةً : لماذا لا أصور اصطداماً ؟

Emak-Bakia

نزلتُ من السيارة، وخلال تحضيري للكاميرا، كنت أتابعُ القطيع، ومن ثمّ ضغطتُ على زرّ التشغيل، وقذفتها في الهواء مسافة عشرة أمتار تقريباً، والتقطتها بيديّ من جديد).
وفي مكانٍ آخر، يشرحُ “Man Ray” سياق إنجاز صوراً ضوئية/إشعاعية (Rayogrammes) استخدمها في فيلمه “عودة إلى المنطق”(Le Retour à la raison)، واعتمدها من جديدٍ في فيلمه ” Emak Bakia” :
فقد حصل على لفافةٍ من شريط خام بطول حوالي ثلاثين متراً، وجلس في غرفةٍ مُظلمة كي يقصّه إلى شرائط قصيرة ثبتها على طاولة، ورشّ على بعضها قليلاً من الملح، والبهار، ورمى عشوائياً على الأخرى دبابيس، ومسامير صغيرة، ومن ثمّ عرَّض الأشرطة للضوء الأبيض لفترة ثانية، أو ثانيتين، وبعد أن تخلص من تلك الأشياء الموضوعة على الشرائط، قام بتحميضها، وأظهرت النتيجة أشكالاً انطبعت بدون استخدام كاميرا، وبمعنى أدقّ، بدون الاستعانة بنظامٍ بصريّ.
يقول ” Man Ray”: لم يكن لديّ أيّ فكرةٍ عن النتيجة التي سوف تظهر على الشاشة.

كامل المقال


إعلان