داوود عبد السيد … درجن درجن درجن *

السينما الوثائقية في مصر تعاني من الفوضى الإنتاجية والتنظيمية
أرفض  الإيديولوجية في الفن … ,العمل الفني ليس عملا موجها لتجييش الجماهير

حوار كمال الرياحي – تونس

داوود عبد السيد  واحد من أعلام السينما المصرية استطاع من خلال عدد قليل من الأفلام أن يؤسس لخصوصية ميّزت أفلامه عن كثير من الأفلام السائدة في السينما المصرية. بدأ تجربته السينمائية كمساعد مخرج لبعض الأفلام، منها “الأرض” ليوسف شاهين، “الرجل الذي فقد ظله” لكمال الشيخ، و”أوهام الحب” لممدوح شكري. ترك مهنة مساعد مخرج التي بدت له مرهقة وكأن بشيء ما ينتفض في داخله بحثا من مخرج. ليس سوى هوية المخرج ذاتها.
بدأ مسيرته الاخراجية  الفردية بأفلام وثائقية  منها  “وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم ـ 1976”، “العمل في الحقل ـ 1979”، “عن الناس والأنبياء والفنانين ـ 1980”.
يقول عن هذه التجربة : “إن الفيلم التسجيلي يتيح لك حرية التجريب دون خوف من الخسارة المادية مثلاً.. أقصد بالتجريب هو أن تعبر عن المضمون الذي لديك بصورة متحررة.. وحين تعبر فقد صار في إمكانك التجريب، ولو نجح التجريب فستكسب الثقة فيه وتجد القدرة على المزيد منه..”
بعد هذه التجارب مع السينما التسجيلية اقتحم داوود عبد السيد عالم الأفلام الروائية لكن هذه المرة برؤيته الخاصة فأخرج فيلمه الأول “الصعاليك” وهو من تأليفه ثم تلته أفلام أخرى : “البحث عن سيد مرزوق” من تأليفه وفيلم “أرض الأحلام” وهو من تأليف : هاني فوزي وفيلم “الكيت كات” عن رواية “مالك الحزين” لـ إبراهيم أصلان – السيناريو للمخرج وفيلم  “سارق الفرح” عن قصه لـ خيري شلبي بنفس الاسم – السيناريو للمخرج وفيلم  “مواطن ومخبر وحرامى” وفيلم “رسائل البحر” الذي شارك في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية. وهو نفس الفيلم الذي اختارته اللجنة المستقلة التي شكلها الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة للمنافسة على جائزة الأوسكار العالمية لأفضل فيلم أجنبي “غير أمريكي ” لعام 2010 .
“فيلم ” رسائل البحر “إنتاج 2010 إخراج وسيناريو وحوار داود عبد السيد ومن إنتاج الشركة العربية للسينما وبطولة آسر ياسين “يحي” وبسمة “نورا” مي كساب “بيسه” محمد لطفى “قابيل” صلاح عبد الله “هاشم” نبيهة لطفى “فرانشيسكا” أحمد كمال “محمود” سامية أسعد “كارلا”…
وتدور أحداث الفيلم حول المهندس” يحيى” وهو شاب في مقتبل العمر يعانى من اضطرابات في النطق، مما يعرضه للسخرية من أصدقائه في العمل فيترك مهنته, ويقرر أن يذهب إلى الإسكندرية دون هدف محدد، وخلال ذلك يلتقي بالعديد من الشخصيات لكل منها قصة مختلفة”
عل هامش أيام قرطاج السينمائية..
كان لنا  مع المخرج هذا الحوار الخاطف وهو يهم بمغادرة الفندق قبل يوم من اختتام المهرجان. الذي ألعن بعد ذلك عن فوز بطل الفليم آسر يس بجائزة أفضل ممثل وتسلمتها بدلا عنه الممثلة الهام شاهين.


داوود عبد السيد يحاوره الزميل كمال الرياحي على هامش مهرجان قرطاج

* بدءا يمكن أن نقول إن داوود عبد السيد ظل في أفلامه ينتصر للمهمشين وللطبقات المسحوقة من الصعاليك إلى رسائل البحر مرورا بالكيت كات. هل  انحسار الطبقة الوسطى التي ولدت فيها هو سبب انغماس السينما في عوالم المهمّشين؟
ما دمت تعبّر عن طبقة وتنقل هموما وأفكارها للشاشة فمن البديهي أن تكون مهتما ومنتسبا لهذه الطبقة وتحمل صفاتها. أنا ولدت في طبقة متوسطة لكن ذلك لا يمنعني من الحديث عن المهمشين وليس عندي أي مانع من القيام بأفلام في القصور وعن عوالمها. القضية قضية رؤية إخراجية وقد قدّمت رؤيتي الشخصية للمهمشين. أنت تعلم أن هناك من تعامل مع هؤلاء بشكل سطحي وهناك أيضا من تعامل بموضوعية … فالرؤى تختلف.

* قدمت «الكيت كات» عن رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان و «سارق الفرح» عن قصة لخيري شلبي، لاحظنا اهتماما كبيرا بالقصة كعصب أساسي للأفلام التي صورتها… فهل مازال بإمكان الأدب العربي أن يقدّم للسينما في ظل طغيان ظاهرة سينما المؤلف؟ 
الأدب أحد مصادر السينما هذا صحيح لكن ليست هي المصدر الوحيد فهناك روايات لا تصلح لأن تحوّل إلى أفلام سينمائية .. فالقضية تكمن في مدى صلاحية القصة وإمكانية تطويعها في عمل سينمائي.
عموما بالنسبة إليّ نادرا ما تجذبني رواية وتشدني إليها وأتمنى أن أجد كل يوم رواية صالحة للتحويل أعتقد أن مشكلة الأدب الحالي هو كونه “أدب مكتئب” يدفع لليأس لا للرغبة في الحياة.

* محاولة التغلّب على العجز تيمة رئيسة, تقريبا, في كل أعمالك؟ فهل الإنسان لديه دائما القدرة على التغلّب على اليأس؟
ليس دائما بقادر لكن على الأقل تكون عنده النية والاستعداد التلقائي للخروج من حالة اليأس والإرادة القوية.. المهم ألاّ تكون روحه مستسلمة للقدر. الجميل في الإنسان امتلاكه لروح مغامرة ورغبة في التجديد.
في فيلمك الجديد”رسائل البحر” تقدّم صورة شاعرية لقابيل القاتل (محمد لطفى) الذي يندم على جريمته الأولى ويقرر ألا يعود لأذية أحد بعد ذلك. الإنسان أو قابيل الحقيقي اليوم تدفعه الجريمة الأولى إلى ارتكاب المزيد من الجرائم. حتى يبدو القتل لعبته الأثيرة.
لا علاقة لبطل الفيلم بقابيل التوراتي الأسطوري. القضية تكمن في القتل المخطط والقتل بدون ضمير لكن شخصية قابيل  في الفيلم هي شخصية مغايرة شخصية تمتلك ضميرا.

* عالجت في الفيلم من خلال شخصية حارس الملهى  قابيل أو محمد لطفى فكرة الإنسان والذاكرة. فهل يمكن أن نعيش بلا تاريخ وذاكرة؟
الإنسان هو حيوان له ذاكرة وله تاريخ كما يقول أحمد بهاء الدين في كتابه “أيام لها تاريخ” وهو ما ساهم في تقدّمه وازدهاره لأنه يملك تاريخ فمن ليس له ماض لن يكون له حاضر.

* في الفيلم صورة لصيادين: الصيّاد الشريف الذي يمثله البطل “يحيى” (آسر ياسين) والذي يضن عليه البحر بسمكة للعشاء فيبيت خاويا صابرا والصياد الشرير الحاج هاشم الذي يصطادة بوحشية وجشع من خلال الديناميت. القصة أبعد وأعمق من الصيد بكل تأكيد؟
أردت الحديث عن نوع من أنواع الطبقات الجديدة في المجتمع المصري والتي تسعى للربح بأكبر قدر من السهولة والسرعة وهو نوع من أنواع الصيد الجائر وهو ضد “الطبيعية”.
أردت أن أحذر من خطورة هذه الطبقة الجديدة وهي تمثل خطورة على المجتمع تعمل بلا قانون ولا مبادئ ولا رقيب يردعهم وهو خطر على “البيئة الاجتماعية”.
هؤلاء الطبقة مشكلتهم الأساسية اقتصادية بحته أما الطبقة المهمّشة والمسحوقة فمشكلتهم التنظيم. لابد لهذه الطبقة الفقيرة أن تعي بمصالحها وتنظم نفسها لنيل حقوقها.

* تتناول مواضيع حساسة وعميقة في آن، لكن دون مباشرتية كما لاحظنا في بعض الأفلام العربية المشاركة في أيام قرطاج السينمائية. كيف تقي نفسك من خطر المنبرية في خطابك السينمائي وأنت تعالج مواضيع تبدو أيديولوجية؟
أنا أرفض أن يكون للفن إيديولوجية أو عقيدة لأن العمل الفني ليس عملا موجه لا لتجييش الجماهير بل موجه للبشر ليزدادوا وعيا ورهافة واستمتاع لست مع “تسييس” السينما ولا  طرح “خطب سياسية موجهة”.

* هل رفضك للسينما التجارية هو سبب قلة أعمالك؟
أعترف بقلة أعمالي على مدار السنة لكن جزء من ذلك يعود للإنتاج وصعوبة إيجاد تمويل. وأحيانا أنتظر7 سنوات أفكر في عمل. أعمالي غير تجارية مع الأسف والمصالح الاقتصادية و”البيزنس” يفرض شروط ومعايير أخرى للفن صراحة أنا أعذر المنتجين.
القضية قضية سوق وتوجه السوق وهذا يتوقف على الدولة ونظامها الاجتماعي فالدولة في مصر مثلا تعمل رقابة لتوجه الأفلام وفق سياساتها بالتالي المفروض أنها تقدّم دعما لتحويل هذه الرؤى إلى أفلام حية.
مثل الأنظمة البيروقراطية شعارها “أراقبك ولا أدعمك لتصنع ما هو أحسن”.

* صحيح أنك لا تقدم أفلاما تجارية ولكنك تقدم أقلاما جماهيرية. هناك فرق إذن  بين الجماهيري والتجاري؟
أنا اهتم بالبعد التجاري والجماهيري والفني أحاول التوفيق بين هذا الثالوث عموما صعب لكن أحاول.
أسعى إلى أن أصنع فيلما جماهيريا بمستوى فني راق ذلك شعاري.. قد أكون نجحت وقد أكون فشلت، هذا أتركه للجمهور والنقاد. لكن على الأقل أعمل فيلم يرجع للمنتج أتعابه وأرباحه.

* شخصية الزوجة الثانية التي تظهر في مظهر مومس في فيلمك.. فما موقع قضية المرأة في افلامك؟
أنا عموما متحيز للمرأة ولضرورة تمتعها بحقوقها وحريتها كاملة وضد أي قمع لها بشرط محافظتها على خصوصيتها.
شرعية العلاقة الزوجية أضعها على المحك لأنها لا تتوقف على إمضاء العقد بل على شروط أخرى.
فعندنا مثلا في مصر ظاهرة زواج الفتيات الفقيرات من أثرياء خليجيين في أعمار أجدادهن هن لا يتجاوزن ال13 سنة وفارق عمر كبير، يشتريها من أهلها ويتزوجها مثل العبودية تماما. هل يمكن اعتبار هذا زواج؟ هو بيع وصفقة “رقيق أبيض”, شرعية الزواج ليست في العقد.
الاتجاهات الدينية المتخلفة عندنا تركّز من جانب على المنحى القانوني وترفض إصلاحه. قانون متخلف ضد المرأة وضد الإنسانية عامة.

* بعد أعمال قليلة في عالم السينما الوثائقية بدأ بها داوود عبد السيد حياته السينمائية نراه ابتعد عنها هل هو الطلاق بالثلاث؟.
لا وجود لطلاق بيني وبين السينما الوثائقية. مشكلتي أني حين بدأت أشتغل بالسينما الوثائقية لم يكن لها جمهور يتابعها ويهتم بها لكن هذا المفهوم تغير بسبب انتشار القنوات التلفزيونية التي تهتم بالوثائقية وبعضها اختص فيه.
مشكلة السينما الوثائقية في مصر أنها تعاني من الفوضى الإنتاجية والتنظيمية أنا في النهاية أشتغل كمخرج محترف وأعيش من شغلي.
الفترة القادمة في مصر غنية بالأحداث السياسية والفنية والاجتماعية بالتالي قد أفكر في العودة للوثائقي.
هل تنتظر تتويجا في قرطاج في هذه الدورة من أيام قرطاج السينمائية؟
لا أعتقد أن وظيفة المخرج أن يتحصل على جوائز لكن أكيد يسرني الجائزة ويا حبذا لو كانت مادية أنا لا أبحث عن الجوائز ولا أتفاجأ إن توّجوني بالتانيت.

وكذلك قلت عندما سألوك عن رأيك في ترشيح فيلمك للأوسكار.شكرا سيد داوود عبد السيد

*عبارة يرددها «الشيخ حسني» محمود عبد العزيز في  «الكيت كات»


إعلان